إن سيدنا عمر منع كبار الصحابة من الزواج بغير المسلمات مخافة أن يواقعوا منهن غير المحصنات ، وحتى لا يتأسى بهم المسلمون فيرغبوا بهن عن المسلمات فتكون من ذا فتنة ، وهذا التدخل منه – رضي الله عنه- “تقييد للمباح”. ومثل هذا التقييد للمصلحة من حق ولي أمر المسلم، وهو تقييد مؤقت ومُعَلَّل، والصحابة الكبار يُعْتَبَرُون أسوة لعامة الناس، ومثل هذا يُشَرَّع للإمام العادل أن يلجأ إليه في سياسة الرعية. ولهذا نظائر في فقه عمر، مثل منعه الذبح في بعض أيام الأسبوع، ليتوافر اللحم لعامة الناس بقية الأيام.

هل منع سيدنا عمر زواج المسلمين من نساء أهل الكتاب

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :-

هذا شاهد آخر، مما يستشهد به المُشَوِّشُون على تحكيم الشريعة، والداعون إلى تعطيل نصوصها باسم المصالح، وهو: ما يَتَعلَّق بزواج المسلم من الكِتَابية، وموقف عمر من حذيفة بن اليمان، حين تَزَوَّجَ يهودية بالمَدَائن، فكَرِه له ذلك فكتب إليه يقول: أحرام هو يا أمير المؤمنين؟ فرد عليه يقول لا، ولكن أخشى أن تُواقِعوا المُومِسَات منهن (رواه الطبراني في تفسيره ج 4 الأثر 4223 بتحقيق آل شاكر، ونقله عنه ابن كثير “1/257” وصحح إسناده، ورواه عبد الرزاق في المصنف ج “7/176” الأثر “12668” كما رواه سعيد بن منصور في “السنن” ـ باب نكاح اليهودية والنصرانية. الأثر رقم “715” بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمى، ورواه البيهقي في السنن الكبرى “7/172” وذكره الجصاص في أحكام القرآن “1/333”). يعني العَوَاهِر.

وفي بعض الروايات أن عمر كتب لحذيفة: أعزم عليك أن لا تضع كتابي هذا، حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لِجَمَالِهِن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين (انظر: الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني ص 75، نقلاً عن “تعليل الأحكام” للدكتور محمد مصطفى شلبي ص 43 ـ 44).

وقد روي أن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية، فأنكر عليه عمر أيضًا (رواه عبد الرزاق في مصنفه ج 7 الأثر “12672) ودُعاة تعطيل النصوص يرَوْن: أن عمر بموقفه هذا اجتهد في نص قطعي الثبوت والدلالة، فغير حكمه باجتهاده، نتيجة لتغير الظروف.

ادعاء تعطيل عمر لنصوص الشريعة القطعية

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :- الواقع أن عمر لم يغير حكمًا ثَبَت بنص قطعي الدلالة بحال، فالنص قوله تعالى: (وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ منْ قَبْلِكُمْ) (المائدة: 5).

وعمر خشي أن يتهاونوا في شرط “الإحصان” المذكور في القرآن ويتزوجوا منهن غير المحصنات.

كما خشي أمرًا آخر وهو: أن يَتَمادَوْا في الزواج من الكتابيات، ويَعْزِفوا عن المسلمات، وفي ذلك فتنة أي فتنة، لِبَنَاتِ المسلمين، وكساد سُوقهنَّ.

وهنا يكون موقف عمر هو التدخل لـ “تقييد المُباح”. ومثل هذا التقييد للمصلحة من حق ولي أمر المسلم، وهو تقييد مؤقت ومُعَلَّل، والصحابة الكبار يُعْتَبَرُون أسوة لعامة الناس، ومثل هذا يُشَرَّع للإمام العادل أن يلجأ إليه في سياسة الرعية. ولهذا نظائر في فقه عمر، مثل منعه الذبح في بعض أيام الأسبوع، ليتوافر اللحم لعامة الناس بقية الأيام.

وقال الإمام الطبري: وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة ـ رحمة الله عليهم ـ نكاح اليهودية والنصرانية، حذارا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، فأمرهما بتخليتهما (تفسير الطبري “4/336” ط. المعارف).

زواج المسلم من الكتابية في عصرنا

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :- لي فتوى مطولة في زواج المسلم من الكتابية في عصرنا ـ وبخاصة الكتابية الأجنبية يتزوجها المسلم العربي أو الشرقي ـ مِلْتُ فيها إلى المنع، أو التقييد على الأقل، حتى تتوافر شروط أربعة لابد منها. وقد بَنَيْتُ ذلك على نصوص الشريعة وقواعدها، ومقاصدها العامة ( طالع هنا نص الفتوى … الزواج من الكتابيات.. حقائق وضوابط)وهو تحريم غير عام ولا دائم، بل موقوت ومرهون بسببه.

المهم أنه لا يوجد معنا نص قطعي الثبوت والدلالة، اجتهد فيه عمر اجتهادًا يغايِر ما دل عليه بطريق القطع.

بل روى البخاري عن نافع مولى ابن عمر: أنه كان إذا سُئِل عن نكاح النصرانية واليهودية، قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنات، ولا أعلم من الإشراك شيئًا أكبر من أن تقول المرأة: ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله (انظر: البخاري مع الفتح “9/416” حديث “5285” باب قول الله تعالى: (ولا تُنْكِحُوا المشركاتِ حتى يُؤْمِنَّ..) من كتاب الطلاق، وانظر: تفسير ابن كثير “1/258″، ط الحلبي. وتفسير القرطبي “3/68” ط. دار الكتب).

وهو مذهب الإمامية (انظر: شرائع الإسلام للحِلِّي “2/294”). ومال إليه في عصرنا شيخنا الشيخ عبد الحليم محمود ـ شيخ الأزهر السابق (انظر: فتاوى الشيخ عبد الحليم محمود “2/128”)، كما مال إليه الشهيد سيد قطب في تفسيره لآية البقرة (انظر: في ظلال القرآن “1/241،242” ط. دار الشروق).

فكيف يكون النص قطعيًّا، وهو يحتمل مثل هذا الخلاف؟.