من لوازم الإخاء في الإسلام: التعاون والتراحم والتناصر، إذ ما قيمة الأخوة إذا لم تعاون أخاك عند الحاجة، وتنصره عند الشدة، وترحمه عند الضعف؟

لقد صور الرسول الكريم مبلغ التعاون والترابط بين أبناء المجتمع المسلم بعضه وبعض هذا التصوير البليغ المعبر حين قال: “المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا” (متفق عليه عن أبي موسى) وشبَّك بين أصابعه. فاللبنة وحدها ضعيفة مهما تكن متانتها، وآلاف اللبنات المبعثرة المتناثرة لا تصنع شيئًا، ولا تكون بناء. إنما يتكون البناء القوي من اللبنات المتماسكة المتراصة في صفوف منتظمة، وفق قانون معلوم، عندئذ يتكون من اللبنات جدار متين، ومن مجموع الجدر بيت مكين، يصعب أن تنال منه أيدي الهدامين.

كما صور مبلغ تراحم المجتمع وتكامله، وتعاطف بعضه مع بعض بقوله: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر” (رواه مسلم عن النعمان بن بشير). فهو ترابط عضوي، لا يستغني فيه جزء عن آخر، ولا ينفصل عنه، ولا يحيا بدونه، فلا يستغني الجهاز التنفسي عن الجهاز الهضمي، أو كلاهما عن الجهاز الدموي أو العصبي، فكل جزء متمم للآخر، وبتعاون الأجزاء وتلاحمها يحيا الكل، ويستمر نماؤه وعطاؤه.

ويقول : “المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على مَن سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومسرعهم على قاعدهم” (رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمرو بإسناد حسن).

ويُدخِل في نصرة المسلم للمسلم عنصرًا جديدًا حين يقول: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا”، قيل: ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا يا رسول الله؟ قال: “تأخذ فوق يديه، أو تمنعه من الظلم فذلك نصر له” (رواه البخاري عن أنس).

والقرآن الكريم يوجب التعاون ويأمر به بشرط أن يكون تعاونًا على البر والتقوى، ويحرمه وينهى عنه إذا كان على الإثم والعدوان. يقول تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (المائدة: 2).
ويجعل المؤمنين أولياء بعضهم على بعض، بمقتضى عقد الإيمان، كما قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التوبة: 71) وهذا في مقابلة وصف مجتمع المنافقين بقوله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم) (التوبة: 67).

كما وصف مجتمع الصحابة بأنهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح: 29) فالتراحم سمة أولى من سمات المجتمع المسلم.
ومقتضى ذلك أن يشد القوي أزر الضعيف، وأن يأخذ الغني بيد الفقير، وأن يُنير العالم الطريق للجاهل، وأن يرحم الكبير الصغير، كما يوقر الصغير الكبير، ويعرف الجاهل للعالم حقه، وأن يقف الجميع صفًا واحدًا في الشدائد والمعارك العسكرية والسلمية، كما قال تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص) (الصف: 4)
وفي قصص القرآن صور حية للتعاون المثمر البناء.

من ذلك صورة التعاون بين موسى وأخيه هارون، وقد سأل الله أن يشد به أزره في قيامه برسالته: (واجعل لي وزيرًا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرًا، ونذكرك كثيرًا، إنك كنت بنا بصيرًا) (طه: 29 – 35).
وكان الجواب الإلهي: (قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانًا) (القصص: 35).
وبهذا كان هارون يعاون أخاه موسى في حضرته، ويخلفه على قومه في غيبته.

ومن صور التعاون ما قصه علينا القرآن من إقامة سد ذي القرنين العظيم، ليقف حاجزًا ضد هجمات يأجوج ومأجوج المفسدين في الأرض. وكان ثمرة للتعاون بين الحاكم الصالح والشعب الخائف من بغي الأقوياء عليه: (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجًا على أن تجعل بيننا وبينهم سدًا، قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردمًا، آتوني زبر الحديد، حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا، حتى إذا جعله نارًا قال آتوني أفرغ عليه قطرًا، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا) (الكهف:94 – – 97).

التكافل المادي والأدبي:
ومن مظاهر هذا التعاون والتراحم والتناصر: التكافل بين أبناء المجتمع المسلم، وهو تكافل مادي ومعنوي، اقتصادي ومدني، اجتماعي وثقافي.
يبدأ هذا التكافل بين الأقارب بعضهم وبعض، كما يفصل ذلك نظام النفقات في شريعة الإسلام. فالقريب الموسر ينفق على قريبه المعسر وفق شروط وأحكام مفصلة في الفقه الإسلامي، كما قاله الله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) (الأنفال: 75).
ثم تتسع دائرة هذا التكافل لتشمل الجيران وأبناء الحي الواحد في البلد الواحد، بمقتضى حق الجوار، الذي أكده الإسلام، وفي الحديث: “ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره جنبه جائع” (رواه الطبراني وأبو يعلي ورواته ثقات عن ابن عباس، ورواه الحاكم من حديث عائشة بنحوه وصححه ووافقه الذهبي).

وفي الحديث الآخر: “أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله” (رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم. وقال المنذري في الترغيب: بعض أسانيده جيد، وكذا العراقي في تخريج “الإحياء” وصححه الشيخ شاكر في تخريج المسند برقم- -4880- – وانظر الحديث – -1000- – من كتابنا “المنتقى من الترغيب والترهيب” طبع. دار الوفاء).

ثم تتسع أكثر وأكثر بحيث تشمل الإقليم عن طريق الزكاة، التي أمر الرسول الكريم – -- – أن تؤخذ من أغنياء كل إقليم لترد على فقرائه، فوضع بذلك أساس التوزيع المحلي، على عكس ما كان يصنع في الحضارات السابقة على الإسلام، فقد كانت الضرائب تؤخذ من مزارعي ومحترفي الأقاليم النائية والقرى البعيدة، لتوزع في المدن الكبيرة، ولا سيما عاصمة الملك أو الإمبراطور.

ثم تزداد اتساعًا ليشمل التكافل المجتمع كله ، ومنذ فجر الدعوة إلى الإسلام في مكة، والمسلمون أفراد معدودون مضطهدون، ليس لهم كيان ولا سلطان، كان القرآن يدعو بقوة إلى هذا التكافل بجعل المجتمع كالأسرة الواحدة، يصب الواجد فيه على المحروم ويحمل فيه الغني الفقير.

ولم يجعل القرآن ذلك شيئًا من نوافل الدين، يقوم به من ترقى في درجات الإيمان والإحسان، ولا يطالب به الشخص العادي من الناس.
بل اعتبره القرآن أمرًا أساسيًا من دعائم الدين، لا يحظى برضا الله من لم يقم به، ولا ينجو من عذابه من فرط فيه.

اقرأ في السور المكية مثل هذه الآيات: (فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيمًا ذا مقربة، أو مسكينًا ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) (البلد: 11 – – 17).

وقوله تعالى في سورة أخرى: (كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين، في جنات يتساءلون، عن المجرمين، ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين….) (المدثر: 38 – – 44).

فجعل مصيرهم النار: لأنهم أضاعوا حق الله بإضاعة الصلاة، وأضاعوا حق عباده، إذ لم يطعموا المسكين.
وإطعام المسكين كناية عن رعاية ضروراته وحاجاته، إذ لا معنى لأن نطعم المسكين وندعه مشردًا بلا مأوى، أو عريانًا بلا كسوة، أو مريضًا بلا علاج.
ولم يكتف القرآن بإيجاب إطعام المسكين، بل زاد على ذلك فأوجب الحض على إطعامه، والحث على رعايته، وجعل إهمال ذلك من دلائل الكفر والتكذيب بالدين: (أرأيت الذي يكذّب بالدين، فذلك الذي يدّع اليتيم، ولا يحضّ على طعام المسكين) (الماعون: 1 – -3).

ويجعل ذلك مع الكفر بالله من موجبات العذاب الأليم، واصطلاء الجحيم. فيقول في شأن أصحاب الشمال ممن أطغاه ماله وسلطانه، فلم يغن عنه من الله شيئًا: (خذوه فغلّوه، ثم الجحيم صلّوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه) (الحاقة: 30 – – 33) ثم يذكر أسباب هذا الحكم الشديد، فيقول: (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين) (الحاقة: 33 – – 34).

ويزيد على ذلك فيوجب في المال حقًا معلومًا، ليس بصدقة تطوعية، ولا بإحسان اختياري، من شاء أداه ومن شاء تركه، بل “حق” – -أي “دين”- – في عنق المكلفين، وحق معلوم غير مجهول، كما في قوله تعالى في وصف المتقين: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (الذاريات: 19).

وفي سورة أخرى يصف الحق بالمعلومية فيقول: (والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم) (المعارج: 24 – – 25).
وفي الحديث عن الزروع والثمار، والجنات المعروشات وغير المعروشات، يقول سبحانه: (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده). (الأنعام: 141)
وهذا الحق هو الزكاة، التي فرضت في مكة غير محددة ولا مفصلة.

كل هذا في القرآن المكي، فلما أصبح للمسلمين دولة وسلطان، حددت أنصبة الزكاة ومقاديرها بوضوح، وبعث السعاة ليجمعوها من أهلها ويصرفوها في محلها. وهم الذين سماهم القرآن: “العاملين عليها”، وجعل لهم نصيبًا من حصيلة الزكاة نفسها، ضمانًا لحسن تحصيلها وتوزيعها. ووصل الإسلام بهذه الفريضة المالية إلى أعلى درجات الإلزام الخلقي والتشريعي فجعلها ثالث أركان الإسلام، وأوجب أخذها كرهًا، إن لم تدفع طوعًا، ولم يتردد في قتال من منعوها إذا كانوا ذوي شوكة وقوة.

وهذا التكافل المادي أو المعيشي ليس هو كل ما طلبه الإسلام في هذا المجال، بل هناك أنواع أخرى من التكافل، ذكرها العلامة الفقيه الداعية الدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله- وجعلها بالتكافل المعيشي عشرة كاملة .