ما أنكَدَ المنافقين وما أجهَلَهم، لقد رأوا بأعينهم فضيحة الله لهم وكَشْفَه كَذِبَهم وافتراءاتهم ومع ذلك فما ثابوا إلى رشدهم ـ إن كان لهم رشد ـ بل استمرءوا الكذب ورضوا بالهوان اللاحق لهم بإعلام الله رسولَه أقوالَهم وتدبيرَهم ومكايدَهم، لقد قال رجل منهم: إن هؤلاء الذين يسفِّهُهم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لخيارُنا وأشرافُنا. فسمع هذه المقالة مسلم فرد على المنافق وأخبر النبيَّ ـ عليه السلام ـ وقال له: “ما حَمَلَك على ما قلت؟” فجعل يَحلف بالله ما قال، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صَدِّق الصادقَ وكَذِّب الكاذبَ. فأنزل الله: (يَحْلِفون باللهِ لكم ليُرضوكم واللهُ ورسولُه أحقُّ أن يُرضوه إن كانوا مؤمنين. ألم يعلموا أنه من يُحَادِدِ اللهَ ورسولَه فأن له نارَ جَهنمَ خالدًا فيها ذلك الخزيُ العظيمُ).

وكلمة (يحادد) مضارع (حادّ) بمعنى عصى يَعصي وأغضب يُغضب، فمن حادّ اللهَ هو من عصاه في أمره وأغضبه بعمله. والكلمة يدور معناها حول الشدة والقطع والإغلاظ والغضب والطيش والبعد عن الزينة والفصل بين الشيئين والتمييز بينهما والصرف عن الأمر، تقول: حَدَّت الرائحة؛ اشتد ريحها. وتقول: حَدَّ فلان على فلان؛ غضب عليه وأغلظ له القول. وفلان حدَّ في معاملاته: طاش ولم يُصِبْ. وحَدَّت المرأة على زوجها حِدَادًا: تركت الزينة ولبست الحداد. وحدَّ بصرَه إليه: نظر إليه نظرة انتباه. وحَدَّ الأرضَ: وضع فاصلاً بينها وبين ما جاورها. وحدَّ الشيءَ عن غيره: مازَه منه وعزَله. وحدَّ فلان فلانًا عن الأمر: صرَفه عنه. وحَدَّ الجانيَ: أقام عليه الحد. والحد في الشرع عقوبة مقدرة كحد السرقة وحد القذف وحد شرب الخمر وحد الزنا وحد الحِرَابة وغيرها، فإن لم تكن العقوبة مقدرة شرعًا فهي التعزير الذي يصل في بعض الجرائم إلى القتل. وحادت الأرضُ الأرضَ: شاركتها في حدِّها.

ومادة (حادّ) وردت في القرآن كثيرًا، فمن حادّ اللهَ ورسولَه أغضبهما وعاداهما، قال تعالى:
(لا تَجِدُ قومًا يؤمنون باللهِ واليومِ الآخرِ يوادّون من حادَّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم أولئك كَتَبَ في قلوبِهم الإيمانَ وأيَّدَهم برُوحٍ منه) وقال سبحانه: (إن الذينَ يحادُّون اللهَ ورسولَه كُبِتُوا كما كُبِتَ الذين من قَبلِهم) وفي السورة نفسها (إن الذين يحادُّون اللهَ ورسولَه أولئك في الأذَلِّين) فمن عصا الله ورسوله وأغضبهما وعاداهما فهو داخل ضمن الأذَلِّين الذين لا تتحقق لهم العزة؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

وفي القرآن الكريم يقول الله في وصف من يُعَوِّقون عن الجهاد: (أشحّةً عليكم فإذا جاء الخوفُ رأيتَهم ينظرون إليك تَدورُ أعينُهم كالذي يُغْشَى عليه من الموتِ فإذا ذَهَبَ الخوفُ سَلَقُوكم بألسنةٍ حدادٍ) أي بألسنة قاطعة ماضية كأنها السيوف.

ومن هذه المادةِ الحدودُ، وحدودُ الله أحكامُه وشرائعه، مفردها حد؛ وهو الحاجز المانع بين الشيئين، وسُمّيَت بذلك لمنعها التخطيَ إلى ما وراءها، يقول الله تعالى: (يَحْذَرُ المنافقون أن تُنَزَّلَ عليهم سورةٌ تنبّئُهم بما في قلوبِهم قُل استهزِئوا إن اللهَ مُخرِجٌ ما تَحذرون) (التوبة: 65) ومن أسماء هذه السورةِ الفاضحةُ، فاضحة المنافقين؛ لأن فيها فَضْحَ المنافقين إذا عملوا عملًا لا يبغون به وجه الله، وفيها فَضْحُهم إذا قالوا قولاً وكتموه أو أنكروه، وفيها فَضْحُهم بإعلام الله رسولَه بما يُضمِرون في قلوبهم.