كان الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري – رضي الله عنه –يرى أن الإنسان لا يحل له أن يمسك أكثر من حاجته ، وأن الإمساك أكثر من الحاجة يدخل ضمن الاكتناز الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه ، والأولى به الفقراء والمحتاجون ، وهذا منهج في الزهد والإيثار ، وهو من محامد الأخلاق ، التي لا يتوجب على الناس فعلها ، ولكنها من باب معاملة الفضل التي يثيب الله تعالى عليها .
ما المبدأ الاقتصادي الذي دعا إليه أبو ذر الغفاري:
يقول الدكتور أحمد الشرباصي من علماء الأزهر – رحمه الله – :
كان أبو ذر الغفاري يعتمد في دعوته الاقتصادية على قول الله ـ تبارك وتعالى ـ:
( والذينَ يَكْنِزُونَ الذهبَ والفِضَّةَ، ولا يُنفقونها في سبيلِ اللهِ، فبَشِّرْهُمْ بعذابٍ أليمٍ، يومَ يُحْمَى عليها في نارِ جهنمَ فَتُكْوَي بهَا جِبَاهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ). ( التوبة: 34 ـ 35 ).
وكان يرى أن هذه الآية تُحارب خَزْنَ المال وتجميده؛ لأن الكنز هو جمع المال، ورصُّ بعضه على بعض، وخزن الدنانير والدراهم في الصناديق أو دفنها في التراب، مع إمساكها عن الإنفاق فيما شرعه الله من وجوه الخير والإصلاح.
ولذلك كان أبو ذر يَثور في وجوه الكانزين والباخلين والمانِعين للزكاة وغيرها من حقوق المال في الإسلام، وكان يقول: “لا يَبِيتَنَّ عند أحدِكم دينارٌ ولا درهم، إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغَريمٍ”. أي لقضاء دَيْنٍ من الدُّيون.
ومقتضى هذا الرأي الذي آمن به أبو ذر أنه لا يجوز للإنسان أن يحتفظ لديه بأكثر من حاجته، ومن الواضح أن هذا مَثَلٌ من أمثلة الزهد والإيثار، ولا يُطالب به مجموع الأفراد، إذا كانوا قد أدَّوا حقوق المال المختلفة التي حددتها الشريعة الغرَّاء؛ ولذلك جاء في “تفسير المنار” هذه العبارة:
“نصوص الكتاب والسنة تُنافي إنفاق كل ما يملك المرء، وتأمر بالقصد والاعتدال،
-فمِنَ الآيات قوله ـ تعالى ـ:(والذينَ إذا أنفقُوا لم يُسرفوا ولم يَقْتُرُوا وكانَ بينَ ذلكَ قَوَامًا).(الفرقان: 67).
-وقوله: ( ولا تجعلْ يَدَكَ مَغلولةً إلى عُنِقِكَ ولا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحسُورًا) ( الإسراء: 29 ).
-ومن الأحاديث الصحيحة المشهورة حديث نهيهِ ـ ﷺ ـ لسعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ عن التصدق بجميع ماله، وإجازته بالثلث مع قوله:”والثلث كثير.
وكان أبو ذَرٍّ يُؤمن بأن المال العام يجب أن يكون للأمة، لا مال الدولة، ولا مال الحكومة، ولا مال الحاكم، وهذا بلغة العصر يُسمى: “التأميم”.
ولذلك كان يُنادي أبو ذر بأن كل ما تُسيطر عليه الدولة من مال ثابت أو منقول، يجب أن يكون ملكًا للشعب، وأن يُسمى مال الأمة، أو مال الشعب، وأن تتحقق سيطرة الأمة عليه عملاً وقولاً. وحينما رأى أبو ذر بعض الحاكمين يسمي المال العام: “مال الله” خاف من هذه التسمية، وخشي أن ينفرد الحاكم بالتصرف في هذا المال تحت هذه التسمية، بمقتضى أنه الحاكم المُفوَّض من الجماعة، ولذلك ثار أبو ذر على هذه التسمية، وطالب بأن يقال للمال العام: “مال المسلمين”، حتى يكون مفهومًا نصًّا وروحًا أنه مال الأمة، لا مال الحاكم ولا مال الدولة.
ولقد روى الطبري وابن الأثير في ذلك أن أبا ذرٍّ ذهب إلى معاوية وقال له: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟. فقال معاوية مُؤوِّلاً: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله والمال ماله؟. فقال أبو ذر متمسكًا برأيه: فلا تَقُلْهُ. فلم يسعْ معاوية إلا أن قال: سأقول مال المسلمين.
ومقتضى هذا كما يقول بعض الباحثين أن يُنفق المال العام على مصالح الشعب، ثم يوزع الفائض على الأفراد، ولذلك كانت الدولة الإسلامية على عهد أبي ذر تأخذ بنظام: “العطاء” الذي يُوَزَّعُ على الناس كل سنة، وكأن هذا العطاء فائضُ مكاسبَ، فهو يرد على الأفراد بعض قضاء كل مصلحة من مصالح الجماعة.
ولقد كان أبو ذر في دعوته الاقتصادية الصارمة العنيفة لا يقبل تردُّدًا ولا تراجعًا وكلَّما نَهْنَهَ أحدٌ من غلوائه في دعوته قال: “واللهِ لن أدعَ ما كنت أقول”. ثم يكرر قوله: “بَشِّرْ أصحاب الكنوز بِكَيٍّ في جنوبهم، وكيٍّ في جِباهم، وكيٍّ في ظهورهم”. وحدَّث الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملأٍ من قريش، فجاء رجلٌ خشِنُ الشعر والثياب والهيئة، حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بَشِّرِ الكانزينَ برُضَفٍ (حجارةٍ مُحَمَّاةٍ) يُحمي عليها في نار جهنم، ثم يوضع ( الحجر المحمَّى) على حلَمة ثدْيِ أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ( أي أعلى الكتف )، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل.
ثم ولَّى فتَبِعْتُهُ، وجلست إليه وأنا لا أدري مَن هو، فقلت: لا أرى القوم إلا وقد كرهوا الذي قلتَ. قال: إنهم لا يعقلون شيئًا. ثم عرف أنه أبو ذرٍّ.
وقال أبو ذر إن خليله النبي ـ ﷺ ـ قال: “ما يسرُّني أن عندي مثل أُحُدٍ هذا ذهَبًا، تمضي علىَّ ثالثة، ومنه عندي دينار، إلا شيئًا أرصده لدَيْنٍ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا”. (أي أنفقه في كل ناحية).
ثم أضاف أبو ذر قوله: ” إن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، ولا والله ما أسألهم دُنيا، ولا أستفْتيهم عن دِينٍ حتى ألقَى الله عز وجل”.
السبب الحقيقي لتشدد الصحابي أبو ذر رضي الله عنه:
لقد جاء في “تفسير المنار” بيان السبب الحقيقي لتشدُّد أبي ذر في دعوته، وهو “استعداده الفطري للأخْذ بالعزائم واحتمال الشدائد، واحتقار التنعُّم والسعة في الدنيا، وعُرف هذا التشدد عن أفراد من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ونهاهم عنه ـ ﷺ ـ وقد اختبره معاوية، فأرسل إليه مالاً كثيرًا، فلم يلبث أن تصدَّق به، وأرسل إليه صهيب بن سلمة ـ وهو أمير بالشام ـ ثلاثمائة دينار، وقال:استعنْ بها على حاجتك، فرَدَّها وقال لرسوله: “ارجع بها إليه، أمَا وجد أحدًا أغرَّ بالله منا ؟ ما لنا إلا الظل نتوارى به (يعني المسكن) وثلاثة من غنمٍ تروم علينا، ومولاة لنا تتصدق علينا بخِدْمتها، ثم إني أتخوَّف الفضْل”.
وكان من نتيجة ثورة الصحابي أبي ذر الغفاري أن أخرجوه من المدينة إلى قرية: “الرَّبَذَةِ”، وخرج الإمام عليٌّ لِيُوَدِّعَهُ فقال له: “يا أبا ذر، إنك غضبتَ لله، فارجُ مَن غضبتَ له، إن القوم خافوكَ على دُنياهم، وخِفتهم على دِينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهربْ بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عمَّا منعوك. وستعلم مَنِ الرابح غدًا والأكثر حُسَّدًا. ولو أن السموات والأرض كانتا على عبدٍ رتَقًا، ثم اتَّقَى الله، لجعل الله له منهما مخرجًا، لا يؤنسك إلا الحق، ولا يُوحَشنَّك إلا الباطل، فلو قبلتَ دُنياهم وظل أبو ذر لمَبْدَئِهِ وفيًّا حتى لحِق بربه، عليه رحمة الله.