صحيح أن المحراب لم يكن موجودا وقت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يكفي لتبديعه، ولا ذمه ؛ لأن تركه وقت النبوة لم يكن بسبب موقف معين منه، ولكن لأنه لم يكن معروفا، ولم تدع الحاجة إليه، ككتابة المصحف.

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :-
من المعروف: أن المسجد النبوي لم يكن به مِحراب في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولا في عهد الخلفاء الراشدين من بعده.

أول من اتخذ المحراب:

وأول مَن اتَّخذَ المحراب: عمر بن عبد العزيز، حين كان واليًا على المدينة المُنورة، في عهد الوليد بن عبد المَلك، وقد هَدَمَ المسجدَ الشريفَ وجَدَّده وزاد فيه، وتَمَّ ذلك سنة إحدى وتسعين للهجرة كما قِيل، وهي السنة التي حَجَّ فيها الولي د(انظر: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى (1/370) وإعلام الساجد ص 363، والنجوم الزاهرة: 1/67).

آراء الفقهاء في بناء المحاريب:

ونظرًا لأن المحاريب لم تَكن في عصر النبوة ولا الخلافة الراشدة، ولم تَجِئْ فيها سُنَّة قولية ولا علمية ولا تقريرية، فقد اختَلَفَ الفقهاء في حُكمها، ما بين مُجيزٍ لها وكارهٍ لبنائها، ومُفَصِّل في الحُكم.

قال الحنابلة: اتِّخاذ المِحراب مُباح، نُصَّ عليه وقِيل: يُستَحب، أَومَأَ إليه أحمد، واختاره الآجري وابن عقيل وابن الجوزي وابن تميم؛ ليَستَدِلَّ به الجاهل، وكان أحمد يَكْرَه كل مُحْدِثٍ، واقتَصَر ابنُ البَنَّاء عليه، فَدَلَّ على أنه قال به (انظر:كشاف القناع(1/493)، وتُحْفَة الراكع والساجد للخُزاعي ص234)

وقال الزركشي في إعلام الساجد: كَرِه بعض السلف اتخاذ المحاريب في المساجد (إعلام الساجد بأحكام المساجد ص362)

وعبارة الحنفية والمالكية تَدَُل على إباحته.

قال ابن عابدين الحنفي: إنَّ الإمام (الراتب) لو تَرَكَ (المِحراب)، وقام في غيره يُكْره، ولو كان .. وسط الصف؛ لأنه خلاف عمل الأمة(حاشية رد المختار (1/434).

وقال الدسوقي المالكي: المشهور أن الإمام يَقوم في المِحراب حال صلاته الفريضة كيف اتُّفِقَ (حاشية الدسوقي (1/331) وانظر مادة (محراب) في الموسوعة الفقهية الكويتية ج36 ص193. وما بعدها).
وقال الشافعية: لا تُكره الصلاة في المِحراب، ولم يَزَلْ عمل الناس عليه من غير نكير (حاشية القليوبي: 1/136) وإعلام الساجد ص364).

هل هناك كراهة في بناء المحاريب في المساجد:

وهذا هو الذي ينبغي اعتماده: أن لا كراهةَ في اتخاذ المحراب في المسجد، بل يَنبغي اعتماد ما قاله بعض الحنابلة من استحبابِه، لِمَا لَه من فوائد عدة، فهو دليل على جهة القبلة، لأيِّ داخلٍ للمسجد، بل حتى لمن هو خارج المسجد، ثم هو يُوفر صفًّا يَحتاج إليه المُصلون في صلاة الجمعة ونحوها ؛ فإنَّ الإمام إذا صَلَّى في المِحراب بَدأتِ الصفوف مِن خَلْفِه، وإلا أخذ وحده صفًّا كاملاً.

وترك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدين إقامة المَحاريب في زمانهم؛ لأنهم لم تَبْدُ لهم بها حاجة، ولم يَقتَرِحْها أحد عليهم، كما اقْتُرَح المِنبرُ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والتَّرْك إنما يكون بدعة إذا تَوافَرَت الدواعي على فِعْلِه في عصر النبوة وامتُنِعَ عن فِعْلِه، فأما مُجَرَّد الترك فلا، فكم مِن أشياءَ لم يَفْعَلْها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفَعَلَها الرَّاشِدون، مثل تَوْسِعَةِ مسجده ـ عليه السلام ـ، وبنائه بالحجارة المَنقُوشة، كما فَعَل عثمان وأَقَرَّه الصحابة، مثل اتخاذه أذَانًا آخر بالزَّوْرَاء يوم الجمعة، حين اتَّسعَتْ المدينة وكثر الناس.

ولم أرَ عالمًا في عصرنا يُنكِر إقامة المحاريب في المساجد، بل استقر هذا منذ قرون من غير نكير من أحد يُعْتَدُّ به، وقد صَنَّفَ الإمام السيوطي رسالة في شأن بناء المحاريب.

حكم الكتابة في المحراب:

وكَرِه بعض العلماء الكتابةَ في المِحراب: آية من القرآن أو نحوها، ونُقِلَ ذلك عن مالك.
قال الزركشي: وجَوَّزه بعض العلماء، وقال: لا بأس به لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18)، ولِمَا رُويَ مِن فِعْل عثمان بالمسجد النبوي (أنه بَنَاه بالحجارة المَنقوشة) ولم يُنْكَرْ ذلك (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/255) وإعلام الساجد ص337)

وهذا هو الذي نُرجِّحه، ولم يَزل المسلمون منذ قرون يَكتُبُون آياتٍ في المحاريب، ويُزخرِفونها، ولكن ينبغي الاعتدال في ذلك ما أَمْكَنَ؛ حتى لا تَشغَلَ الإمام والمصلين خَلْفَه.