لو أن هذه الصورة خرجت مخرج الإجارة فلا يكون في جوازها إشكال ، أي أن كيس الطحين يدفع للخباز فيخبزه لصاحبه بالأجرة المتفق عليها، كل كيلو بكذا.
ولكن تطبيق هذه الصورة عمليا صعب جدا؛ فإن مقتضى تطبيق هذه الصورة أن يخبز الخباز من نفس الدقيق المعطى له، والصعوبة هنا تكمن في أن صاحب الدقيق يريد عددا معينا من الأرغفة، وكلاهما لا يعلم على وجه اليقين مقدار الدقيق الذي ينتج هذه الأرغفة ، فقد يزيد العجين أو يقل عن العدد المطلوب.
ولذلك فإن واقع الصورة يتم عن طريق البيع، فيبيع صاحب الدقيق دقيقه للخباز مقابل وزنه خبزا، ولربما اتفق الطرفان على أن تتم المقابلة عن طريق عدد معروف من الأرغفة لا عن طريق الوزن، فيتفقان مثلا أن كل كيلو من الدقيق يقابله عدد كذا من الأرغفة.
ومعنى ذلك أنه قد تم البيع بين ( دقيق وخبز) بيعا متفاضلا، أي لم يباعا مثلا بمثل حتى في حالة إعطاء الخباز أرغفة بوزن الدقيق؛ لأن التفاضل حينئذ يأتي من المبلغ المدفوع من جهة صاحب الدقيق، وهذا المبلغ في مقابلة عملية الخبز ، وهذا يعني أنه لم يتم التبادل مثلا بمثل، فهل يجوز ذلك؟
الشافعية والحنابلة يمنعون هذه الصورة حتى لو تمت دون دفع مقابل للخبز، فهم يمنعون بيع الدقيق بالخبز على أي وجه وقع البيع متفاضلا أو متماثلا، وذلك؛ لأن رسول الله ﷺ في حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم وغيره نهى عن : ” بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينًا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى”.
كما جاء النهي عند الشيخين ( البخاري ومسلم ) من حديث عمر بن الخطاب أن رسول الله -ﷺ- قال: “الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء” أي إلا يدًا بيد.
ومما اتفق عليه في هذا الحديث النهي عن بيع( القمح بالقمح، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح) إلا مثلا بمثل يدا بيد. وقد رأى المذهبان ( الشافعي والحنبلي) أن القمح سيظل قمحا طحن أم لم يطحن ، عجن أم لم يعجن ، خبز أم لم يخبز فلا يجوز مبادلته بالقمح إلا مثلا بمثل، ولا يمكن تحقق التماثل بين الدقيق والأرغفة ولذلك منعوا مبادلته بعضه ببعض.
بينما رأى الإمام مالك وأبو حنيفة أن الصنعة في القمح تنقله من جنسه إلى جنس آخر، فقد أصبح خبز القمح جنسا غير جنس دقيق القمح، فيجوز بيع هذا بذاك متساويا ومتفاضلا حسبما تراضى الطرفان.
ففي مدونة سحنون في المذهب المالكي ، يقول سحنون سائلا ابن القاسم :” قلت : هل يجوز في قول مالك الدقيق بالسويق ؟ .
قال : سألت مالكا عن الدقيق بالسويق قال : لا بأس به متفاضلا وهو مثل القمح بالسويق لا بأس بذلك اثنين بواحد .
قال : فقلت لمالك : فالخبز بالدقيق ؟ قال : لا بأس به متفاضلا .” انتهى.
وليس هذا مذهب مالك وأبي حنيفة فقط، فقد ذكر الإمام النووي عن ابن المنذر أنه نقل الجواز عن مالك والليث بن سعد وأبي ثور وإسحاق وسفيان الثوري جوازه .
ويعلل العلامة الخرشي المالكي السبب الذي جعل الخبز ينقل الجنس إلى جنس آخر فيقول : “….. لأن الخبز أشد من الطبخ لاحتياجه لأمور سابقة عليه بخلاف الطبخ ؛ لأن الخبز لا يتيسر لكل أحد بخلاف الطبخ وهذا أولى ؛ لأن كلا منهما يحتاج لأمور سابقة عليه كتحصيل الحطب والنار مثلا”
وعلى مذهب هؤلاء الأئمة لا بأس بدفع الدقيق للخباز مقابل وزنه خبزا مع دفع فضل من المال مقابل الصنعة بشرط أن يتم ذلك في كل مرة يحتاج فيها صاحب الدقيق إلى خبز ، أي أنه يودع عنده جوال الدقيق على أنه وديعة عنده ، وفي كل مرة يحتاج فيها إلى الخبز يبيعه من الدقيق ما يعادل حاجته من الأرغفة ؛ لأن التعاقد إذا تم مرة واحدة على مجموع الدقيق فمعنى هذا أننا بعنا جنسا بجنس آخر متفاضلا دون تقابض، وهذا ما نهى عنه الحديث : ” فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم يدا بيد”.