مذهب أهل االسنة والجماعةِّ إثبات القدر، ومعناه: أنَّ الله قدَّر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنَّها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدَّرها سبحانه. وقد يحسب كثير من النَّاس أنَّ معنى القضاء والقدر: إجبار الله العبد وقهره على ما قدَّره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهَّمونه، وإنَّما معناه: الإخبار عن تقدُّم علم الله بما يكون من اكتساب العبد، وصدورها عن تقدير منه وخلق لها، خيرها وشرّها ، لأن الله تعالى هو خالق الخلق ،وهو أعلم بطبيعتهم ،فكان علمه سبحانه بما يعملون وما سيعملون.
وقد ظهر في أواخر أيام الصحابة فرقة اسمها القدرية قال غلاتها : إن الله لم يقدر الأشياء ولا يعلمها إلا عند وقوعها ، فتصدى لهم الصحابة ، وتبرءوا منهم ، وتوالى نكير العلماء عليهم حتى حكموا عليهم بالخروج من الملة حتى انقرض هذا الاعتقاد ، ولا توجد فرقة اليوم تقول به .
وقد تناول الإمام ابن تيمية رحمه الله هذه المسألة في أكثر من موطن من مؤلفاته ،فقال :
مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان : وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد . وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ; فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته لا يمتنع عليه شيء شاءه ; بل هو قادر على كل شيء ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه . وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم : قدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون .
وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة ويزعمون أنه أمر ونهي وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه بل الأمر أنف : أي مستأنف . وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرءوا منهم وأنكروا مقالتهم كما قال عبد الله بن عمر – لما أخبر عنهم – : إذا لقيت أولئك فأخبرهم : أني بريء منهم وأنهم برآء مني وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم : إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون .ا.هـ
واستشهد الإمام ابن تيمية بكثير من الآيات التي تدل على خلق الله تعالى لأفعال العباد ،وعلمه الأسبق بكل ما سيقع في الكون ،فيقول :
قال الله تعالى { إنا كل شيء خلقناه بقدر } وهو سبحانه يعلم قبل أن يخلق الأشياء كل ما سيكون وهو يخلق بمشيئته فهو يعلمه ويريده وعلمه وإرادته قائم بنفسه وقد يتكلم به ويخبر به كما في قوله : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } وقال : { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى } وقال تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } { إنهم لهم المنصورون } { وإن جندنا لهم الغالبون } . وقال تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم } وهو سبحانه كتب ما يقدره فيما يكتبه فيه كما قال : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } .
قال ابن عباس : إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون ثم قال لعلمه : كن كتابا ; فكان كتابا ثم أنزل تصديق ذلك في قوله { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير }.
وقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } وقال : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } وقال : { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب }.ا.هـ
ويستشهد الإمام ابن تيمية على علم الله تعالى الأزلي بعلم الملائكة أن بني آدم سيفسدون في الأرض، فإن كانت الملائكة التي لا تعلم الغيب قد عرفت طبيعة الإفساد الإنساني ،فمن باب أولى أن يعلم الله تعالى خالق الخلق ما يكون من خلقه دون إجبار ، ولم يقل أحد :إن الملائكة أجبرت بني آدم على الإفساد.
يقول الإمام ابن تيمية :
قال الله للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون } فالملائكة قد علمت ما يفعل بنو آدم من الفساد وسفك الدماء فكيف لا يعلمه الله سواء علموه بإعلام الله – فيكون هو أعلم بما علمهم إياه كما قاله أكثر المفسرين : –
أو قالوه بالقياس على من كان قبلهم كما قاله طائفة منهم أو بغير ذلك والله أعلم بما سيكون من مخلوقاته الذين لا علم لهم إلا ما علمهم وما أوحاه إلى أنبيائه وغيرهم مما سيكون هو أعلم به منهم فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء .
وأيضا فإنه قال للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة } قبل أن يأمرهم بالسجود لآدم وقبل أن يمتنع إبليس ; وقبل أن ينهى آدم عن أكله من الشجرة وقبل أن يأكل منها ويكون أكله سبب إهباطه إلى الأرض فقد علم الله سبحانه أنه سيستخلفه مع أمره له ولإبليس بما يعلم أنهما يخالفانه فيه ويكون الخلاف سبب أمره لهما بالإهباط إلى الأرض والاستخلاف في الأرض .
وهذا يبين أنه علم ما سيكون منهما من مخالفة الأمر فإن إبليس امتنع من السجود لآدم وأبغضه فصار عدوه فوسوس له حتى يأكل من الشجرة فيذنب آدم أيضا فإنه قد تألى إنه ليغوينهم أجمعين وقد سأل الإنظار إلى يوم يبعثون فهو حريص على إغواء آدم وذريته بكل ما أمكنه لكن آدم تلقى من ربه كلمات فتاب عليه واجتباه ربه وهداه بتوبته فصار لبني آدم سبيل إلى نجاتهم وسعادتهم مما يوقعهم الشيطان فيه بالإغواء وهو التوبة قال تعالى : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } .ا.هـ
ولا يعني سبق علم الله تعالى وخلقه لأفعال عباده أنه سبحانه يجبرهم عليها ، فالله تعالى عدل ،والعدل لا يعذب بما أجبر عليه عباده ، بل الإنسان مختار في أفعاله السلوكية من إتيان الخير أو الشر .
قال الخطَّابيُّ وقد يحسب كثير من النَّاس أنَّ معنى القضاء والقدر: إجبار الله العبد وقهره على ما قدَّره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهَّمونه، وإنَّما معناه: الإخبار عن تقدُّم علم الله بما يكون من اكتساب العبد، وصدورها عن تقدير منه وخلق لها، خيرها وشرّها.