أقر الإسلام التفاوت بين الناس في الملكيات والأرزاق، لأن فطرة الله فاوتت بينهم فيما هو أغلى من ذلك وأعظم: في الذكاء والجمال وقوة البنية، وسائر المواهب والقدرات الخاصة، فلا غرابة أن يتفاضل الناس في المال والغنى، وهو دون هذه الأشياء بلا ريب، قال تعالى: ( والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق).
هل التفاوت بين الأغنياء والفقراء عبث
لم يكن هذا التفاوت أو التفاضل عبثاً أو سفهاً، بل هو مقتضى الحكمة التي تستقيم بها الحياة، وتنتظم شئون المعاش، كما قال تعالى: ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ). وليس المراد بهذا التسخير، تسخير القهر والإذلال، بل تسخير النظام والإدارة.
فالحياة كمصنع كبير، فيه الرئيس والمرؤوس، والمهندس والعامل، والحارس والخادم، وكل منهم له مهمته، وكلهم لازم ومهم ليدور المصنع وينتج. ومع إقرار الإسلام لمبدأ التفاضل في الرزق، والتفاوت في الغنى والفقر، نراه يعمل على تقريب الفوارق بين الطبقات، فيحد من طغيان الأغنياء، ويرفع من مستوى الفقراء , تحقيقاً للتوازن، وتفادياً لأسباب الصراع والعداوة، بين أبناء المجتمع الواحد. ذلك أن الإسلام يكره تكدس الثروة في أيد معدودة، تتداولها فيما بينها، مع بقاء الأغلبية محرومة منها. فهو يحرص على ألا يكون المال دولة بين الأغنياءوحدهم.
اهتمام الاسلام بعدم جعل المال بيد طبقة واحدة
للإسلام في ذلك وسائل عديدة منها:
1-إلزام الغني ألا ينمى ثروته بالطرق المحرمة،كالربا والاحتكار والغش، والتجارة في المحظورات، ونحوها مما ذكرناه من قبل.
وهذا التضييق في تثمير المال، يسد الطريق إلى الثراء الفاحش إلى حد كبير.
2-إيجاب الزكاة في أموال الأغنياء لترد على الفقراء، فهي أخذ من أولئك، وإعطاء لهؤلاء. والزكاة كما شرعها الإسلام – ما هي إلا وسيلة لتمليك الفقراء ما يغنيهم ويقوم بكفايتهم، إما بصفة دورية سنوية، أو يغنيهم بصفة دائمة.
يقول الإمام النووي وغيره من أئمة الشافعية: يعطى الفقير والمسكين ما تزول به حاجتهما، وتحصل به كفايتهما على الدوام، ويختلف ذلك باختلاف الناس والنواحي، فالمحترف الذي لا يجد آلة حرفته يعطى ما يشتريها به، قلت قيمتها أو كثرت، والتاجر يعطى رأس مال ليشترى ما يحسن التجارة فيه. ويكون ذلك قدر ما يفي ربحه بكفايته غالباً، ومن لا يحسن الكسب بحرفة ولا تجارة يعطى كفاية العمر الغالب لأمثاله، وطريقه أن يعطى ما يشترى به عقاراً يستغل منه كفايته. فالزكاة بهذا تعمل على تكثير عدد الملاك من الفقراء، لأنها تملك المحترف أدوات حرفته -أي من أدوات الإنتاج – جهازاً أو مصنعاً أو جزءاً من مصنع، وتملك الزارع مزرعة أو جزءاً منها، يتملكها مع غيره، وتملك التاجر متجراً وما يلزمه، وتملك غيرهم عقاراً أو نحوه، مما يدر دخلاً منتظماً، يقوم بتمام كفاية مالكه، وكفاية من يعوله. على أن تشرف مؤسسة الزكاة على حسن رعاية هؤلاء لما تحت أيديهم.
3-إيجاب حقوق بعد الزكاة على الأغنياء , مثل نفقات الأقارب، والنذور والكفارات، والأضحية ( وهى واجب في مذهب أبي حنيفة ) وحقوق الجوار والرحم، وقرى الضيف، وإطعام الجائع، وإغاثة الملهوف، وفك الأسير، وعلاج المريض، والمساعدة في الطوارئ التي تنزلل بالأمة، كالحروب والمجاعات ونحوها. وفى الحديث: ( ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه،وهو يعلم ).
4-الميراث الذي شرعه الإسلام، وجعله للأولاد والوالدين، والأزواج والعصبات، وذوى الرحم، بشروط معروفة، وهو عامل كبير في تفتيت الثروة وتوزيعها – بعد موت الموروث – على عدد كبير من ورثته، على عكس بعض الأنظمة، التي تحصر التركة في الابن الأكبر، وما شابه ذلك. ويلعق بالميراث: الوصية لغير الوارثين، وقد أوجبها بعض السلف، بناء على قول الله تعالى: ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين). ومن ذلك استمد قانون ( الوصية الواجبة ) الذي حاول علاج حرمان الأحفاد إذا مات آباؤهم في حياة أجدادهم.
5-حق ولي الأمر الشرعي في إعادة التوازن إذا اختل، عن طريق المال العام كالفيء ونحوه، لا عن طريق المصادرة للملكيات المشروعة، التي يلتزم أصحابها حدود الإسلام، وهذا ما فعله النبي (ﷺ) فى توزيع فيء بنى النضير، حيث وزعه على المهاجرين خاصة، دون إخوانهم الأنصار، إلا رجلين منهم كانت بهما فاقة وحاجة. وسر ذلك: أن الهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، فكان الفرق بينهم وبين إخوانهم الأنصار كبيراً، فهؤلاء يملكون الأرض والعقار، والمهاجرون لا يكادون يملكون شيئاً، على الرغم من أن الأنصار كانوا مثلاً رائعاً في إيوائهم وإكرامهم، وإيثارهم على أنفسهم، ولكن التوازن الذي ينشده الإسلام، جعل النبي (ﷺ) يعالج الأمر عند أول فرصة سنحت له، وجاء القرآن يؤيد هذا التصرف النبوي الكريم، ويعلل حكمة توزيع الفيء على الفئات المحتاجة، من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، بقوله تعالى: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ).
وإن في هذه السابقة من عمل الرسول الكريم، ما يعطي الحق للحاكم المسلم – وهو الذي يحكم بما أنزل الله – أن يخص الفقراء من مال الدولة بما يقلل الفروق الفاحشة بينهم وبين الأغنياء، وما يحقق التوازن الاقتصادي في المجتمع المسلم.