عدة الوفاة فريضة شرعية، وهي مسألة تعبدية لا تؤخذ أحكامها إلا من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة نبيه ﷺ، وقد شاعت في مجتمعاتنا أخطاء كثيرة متعلقة بعدة الوفاة لا أساس لها من الصحة، كالقول بعدم جواز خروج المعتدة، وألا يراها الرجال، وعدم جواز حديثها مع غير محارمها، وأنه لا يجوز لها أن تلبس غير السواد، وغير ذلك مما اشتهر على ألسنة الناس، وكل ذلك ليس من دين الله في شيء.
الأحكام الخاصة بعدة الوفاة:
لخص الدكتور حسام عفانه –أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين- الأحكام الخاصة بعدة الوفاة:
يشيع في مجتمعنا وخاصة بين النساء كلام كثير يتعلق بعدة الوفاة، لا أصل له في الدين.
-فمثلاً يقال بأن المرأة المتوفى عنها زوجها تدخل عدة الوفاة متى شاءت!
-ويقال بأن المرأة الكبيرة في السن لا تعتد عدة الوفاة!
-ويقال بأن المعتدة عدة وفاة لا يجوز أن يراها الرجال الأجانب مطلقاً! وإذا رأوها بطلت عدتها!
ويقال بأن المعتدة عدة وفاة لا تتكلم مع غير محارمها!
-وأن المعتدة عدة وفاةولا ترد على التلفون!
-وأن المعتدة عدة وفاةولا تنشر الغسيل!
-إلى غير ذلك من الأقاويل التي ليس لها مستند شرعي.
والأصل أن نتلقى الأحكام من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه ﷺ، وذلك لأن عدة الوفاة أمر تعبدي أوجبه الله على المرأة.
ويجب أن يعلم:
أولاً: أن عدة الوفاة فريضة على كل امرأة مات عنها زوجها، سواء كانت عجوزاً أو غير عجوز، وسواء كانت تحيض أو لا تحيض، والمدخول بها وغير المدخول بها سواء في لزوم عدة الوفاة، لقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) –سورة البقرة الآية 234-.
فالآية الكريمة عامة في كل زوجة مات عنها زوجها لقوله تعالى: “أَزْوَاجاً” فيجب على كل زوجة مات عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، إلا إذا كانت حاملاً فتعتد بوضع الحمل على الراجح من أقوال أهل العلم.
ويدل على وجوب العدة قوله تعالى “يَتَرَبَّصْنَ” فهذا خبر بمعنى الأمر والأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب.
قال العلامة ابن القيم: [وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل اتفاقاً كما دل عليه عموم القرآن والسنة] زاد المعاد في هدي خير العباد 5/664.
ثانياً: أن عدة الوفاة تبدأ عقيب وفاة الزوج، فتحسب المتوفى عنها زوجها عدتها من يوم موت زوجها،وهذا باتفاق الفقهاء وليس صحيحاً أن المرأة المتوفى عنها زوجها تختار وقت دخولها في عدة الوفاة.
ثالثاُ: تنتهي عدة الوفاة بانقضاء أربعة أشهر وعشرة أيام من تاريخ وفاة الزوج، إذا لم تكن الزوجة حاملاً، وأما الحامل فتنقضي عدتها بوضع الحمل؛لقوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } سورة الطلاق الآية 4.
رابعاً:تستقر المعتدة عدة وفاة في بيت الزوجية، فقد ورد في الحديث عن فُرَيعة بنت مالك – وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما – قالت: (خرج زوجي في طلب عبيدٍ له قد هربوا فأدركهم فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دارٍ شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي ﷺ فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له، فتحولت إلى أهلي وإخواني، فكان أرفق لي في بعض شأني، فقال:تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني فقال: (امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله)، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح.
قال الإمام الشوكاني: [وقد استدل بحديثها – أي الفريعة – هذا على أن المتوفى زوجها عنها تعتد في المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه، ولا تخرج منه إلى غيره، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم ] وذكر الشوكاني أن هذا قول جماهير أهل العلم. نيل الأوطار 6/336 .
ولا تخرج المعتدة من بيتها إلا للأمور الحاجية والضرورية، كالذهاب إلى المستشفى للعلاج، ولشراء حوائجها من السوق كالطعام واللباس ونحو ذلك، هذا إذا لم يكن عندها من يقضي لها حوائجها. وقد أذن النبي ﷺ للمعتدة أن تخرج من بيتها للعذر،فعن جابر رضي الله عنه قال:(طُلقت خالتي ثلاثاً، فخرجت تجدُ نخلاً لها فلقيها رجلٌ فنهاها، فأتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: اخرجي فجُدي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيراً). رواه مسلم.
وروي جواز خروج المتوفى عنها للعذر عن جماعة منهم عمر رضي الله عنه، أخرج عنه ابن أبي شيبة أنه رخص للمتوفى عنها أن تأتي أهلها بياض يومها. وأن زيد بن ثابت رضي الله عنه رخص لها في بياض يومها. وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له ابنة تعتد من وفاة زوجها فكانت تأتيهم بالنهار فتحدث إليهم فإذا كان بالليل أمرها أن ترجع إلى بيتها. وأخرج أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه في نساء نُعي إليهن أزواجُهن وتَشَكَّين الوحشة، فقال ابن مسعود: يجتمعن بالنهار ثم ترجع كل امرأة منهن إلى بيتها بالليل… وروى الحجاج بن منهال أن امرأة سألت أم سلمة بأن أباها مريض وأنها في عدة وفاة فأذنت لها في وسط النهار. وأخرج الشافعي وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلاً أن رجالاً استشهدوا بأحد فقال نساؤهم: يا رسول اللّه إنّا نستوحش في بيوتنا أفنبيت عند إحدانا فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها] نيل الأوطار 6/336- 337.
وإذا خرجت المعتدة لغير حاجة فعدتها لا تبطل وتستغفر الله عز وجل وتتوب.
خامساً:على المعتدة عدة وفاة أن تحدَّ على زوجها ويلزمها أن تتجنب الملابس الجميلة المزينة ويجوز لها أن تلبس ما عداها، ولا يعني أن تكون هذه الملابس سوداء كما جرت عادة النساء في بلادنا. وعليها أن تتجنب جميع أنواع العطور والمكياج والكحل. وأن تتجنب التزين بالذهب والفضة ونحوهما.
فقد ورد في الحديث عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (كنا نُنهى أن نحدَّ على ميتٍ فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار- نوع من البخور -). رواه البخاري ومسلم.
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:( المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة – المصبوغة – ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل). رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/438.
سادساً:لا تسافر المعتدة عدة وفاة مطلقاً، ولا لحج أو عمرةاستدلالاً بحديث الفريعة السابق، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه ( أنه كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج ) رواه مالك في الموطأ والبيهقي وعبد الرزاق.
وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال: (كان عمر وعثمان يرجعانهن حواج ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة )المصنف 7/33].
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولو كانت حجة الإسلام، فمات زوجها، لزمتها العدة في منزلها وإن فاتها الحج، لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها، والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام] المغني 8/168.
سابعاً:يجوز للمعتدة أن ترى الرجال الأجانب وأن ينظروا إليها، وتتكلم معهم ما دام أن كل ذلك ضمن الضوابط الشرعية المقررة، كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} سورة الأحزاب الآية 32.
ولو رآها شخص أجنبي أو كلمها أثناء عدتها فلا تبطل عدتها، وكذلك لا يحرم عليها أمر من الأمور إلا ما ورد الشرع بتحريمه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشراً، وتتجنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، ولا تتزين ولا تتطيب ولا تلبس ثياب الزينة، وتلزم منزلها ولها أن تأكل كل ما أباحه الله …. ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة، مثل التطريز والخياطة والغزل وغير ذلك مما تفعله النساء ، ويجوز لها ما يباح لها في غير العدة ، مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة وغير ذلك ، وهذا الذي ذكرته هو سنة رسول الله صلى اللّه عليه وسلم الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن. مجموع الفتاوى 34/27-28 .
وقال الرحيباني الحنبلي: [لها-للمعتدة- التجمل بالفرش والستور، وأثاث البيت لأن الإحداد في البدن لا في الفرش ونحوه، ولها التنظيف بالحمام إن لم يكن فيه خروج محرم وغسل الرأس، ومشطه وتقليم الأظفار والاستحداد، وإزالة الأوساخ؛ لأنها ليست من الزينة] أسنى المطالب 17/450.
ثامناً: لا يجوز لأحد أن يتقدم لخطبة المعتدة صراحة خلال مدة العدة، ويجوز التعريض بذلك أي التلميح لقوله تعالى:{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} سورة البقرة الآية 235.
هل يجب على المعتدة من وفاة لو خرجت من بيتها إعادة العدة:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية:[عن امرأة معتدة عدة وفاة، ولم تعتد في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية: فهل يجب عليها إعادة العدة؟ وهل تأثم بذلك؟
فأجاب: العدة انقضت بمضي أربعة أشهر وعشراً من حين الموت، ولا تقضي العدة. فإن كانت خرجت لأمر يحتاج إليه ولم تبت إلا في منزلها فلا شيء عليها. وإن كانت قد خرجت لغير حاجة وباتت في غير منزلها لغير حاجة، أو باتت في غير ضرورة أو تركت الإحداد، فلتستغفر الله وتتوب إليه من ذلك، ولا إعادة عليها.] مجموع الفتاوى 34/28. والمعتدة لا تخرج لصلاة الجمعة ولا لصلاة الجماعة فالنساء ليس عليهن جمعة ولا جماعة.
وخلاصة الأمر أن عدة الوفاة فريضة شرعية وهي مسألة تعبدية لا تؤخذ أحكامها إلا من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة نبيه ﷺ، ولا يعتمد في ذلك على ما هو شائع ومنتشر بين الناس.