يكون بدأ بعث الإنسان في اليوم الآخر من عظم صغير اسمه عَجْب الذَّنَب (العصعص ) ، وهو آخر فقرة من فقرات الظهر من أسفل ، وهو الجزء الوحيد الذي لا يبلى من الإنسان بعد موته ، ثم يتركب منه جسمه مرة أخرى ، فهو أول ما يخلق من الآدمي .

فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن ‏أبي هريرة ‏‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال: (‏ ‏بين النفختين أربعون ) قالوا: يا‏ ‏أبا هريرة‏ ‏أربعون يوما؟ قال: أبيت ، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبَيْتُ ، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت ، ( ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق ‏).وهذه رواية البخاري.

قال ابن حجر في فتح الباري بشرح صحيح البخاري :‏
‏قوله : ( أبَيْتُ) ‏أي امتنعت عن القول بتعيين ذلك لأنه ليس عندي في ذلك توقيف ، وفي رواية:” أعيَيَت ” من الإعياء وهو التعب ، وكأنه أشار إلى كثرة من يسأله عن تبيين ذلك فلا يجيبه ، وزعم بعض الشراح أنه وقع عند مسلم أربعين سنة، ولا وجود لذلك نعم في إحدى الروايات ” أربعون سنة ” وهو شاذ ، وكأن أبا هريرة لم يسمعها إلا مجملة فلهذا قال لمن عينها له ” أبيت ” . وفي رواية عن أبي هريرة قال ” بين النفختين أربعون . قالوا : أربعون ماذا ؟ قال : هكذا سمعت ” وقال ابن التين : ويحتمل أيضا أن يكون علم ذلك لكن سكت ليخبرهم في وقت ، أو اشتغل عن الإعلام حينئذ . ووقع في ” جامع ابن وهب ” أربعين جمعة ، وسنده منقطع . ‏

‏قوله : ( ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه ، فيه يركب الخلق ) ‏في رواية مسلم ” ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا ” الحديث . وأفرد هذا القدر من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ ” كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب ” وله من طريق همام عن أبي هريرة قال ” إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا، فيه يركب يوم القيامة . قالوا : أي عظم هو ؟ قال : ‏عجب الذنب ” . وفي حديث أبي سعيد عند الحاكم وأبي يعلى: ” قيل يا رسول الله ما عجب الذنب ؟ قال : مثل حبة خردل ” .

قال ابن الجوزي قال ابن عقيل : لله في هذا سر لا يعلمه إلا الله ، لأن من يظهر الوجود من العدم لا يحتاج إلى شيء يبني عليه . ويحتمل أن يكون ذلك جعل علامة للملائكة على إحياء كل إنسان بجوهره ، ولا يحصل العلم للملائكة بذلك إلا بإبقاء عظم كل شخص ليعلم أنه إنما أراد بذلك إعادة الأرواح إلى تلك الأعيان التي هي جزء منها ، ولولا إبقاء شيء منها لجوزت الملائكة أن الإعادة إلى أمثال الأجساد لا إلى نفس الأجساد .

وقوله في الحديث ” ويبلى كل شيء من الإنسان ” يحتمل أن يريد به يفنى أي تعدم أجزاؤه بالكلية ، ويحتمل أن يراد به يستحيل فتزول صورته المعهودة فيصير على صفة جسم التراب ، ثم يعاد إذا ركبت إلى ما عهد .

وزعم بعض الشراح أن المراد أنه لا يبلى أي يطول بقاؤه ، لا أنه لا يفنى أصلا . والحكمة فيه أنه قاعدة بدء الإنسان وأسه الذي ينبني عليه، فهو أصلب من الجميع كقاعدة الجدار ، وإذا كان أصلب كان أدوم بقاء ، وهذا مردود لأنه خلاف الظاهر بغير دليل .

وقال العلماء : هذا عام يخص منه الأنبياء ، لأن الأرض لا تأكل أجسادهم . وألحق ابن عبد البر بهم الشهداء والقرطبي المؤذن المحتسب . قال عياض فتأويل الخبر وهو كل ابن آدم يأكله التراب أي كل ابن آدم مما يأكله التراب وإن كان التراب لا يأكل أجسادا كثيرة كالأنبياء . ‏

‏قوله : ( إلا عجب ذنبه ) ‏أخذ بظاهره الجمهور فقالوا : لا يبلى ‏‏عجب الذنب‏ ولا يأكله التراب ، وخالف المزني فقال ” إلا ” هنا بمعنى الواو ، كما قال بعض اللغويين ، أي وعجب الذنب أيضا يبلى ويرد ما انفرد به المزني التصريح بأن الأرض لا تأكله أبدا كما ذكرته من رواية همام ، وقوله في رواية الأعرج ” منه خلق ” يقتضي أنه أول كل شيء يخلق من الآدمي ، ولا يعارضه حديث سلمان ” أن أول ما خلق من آدم رأسه ” لأنه يجمع بينهما بأن هذا في حق آدم وذاك في حق بنيه ، أو المراد بقول سلمان نفخ الروح في آدم لا خلق جسده (انتهى).