يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
كان السلف ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى ولم يتأهل لها، ويعتبرون ذلك ثلمة في الإسلام، ومنكرا عظيما يجب أن يمنع.
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا”.
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن النبي ﷺ: “من أفتى بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه”.
وذلك لأن المستفتي معذور إذا كان من أفتاه لبس لبوس أهل العلم، وحشر نفسه في زمرتهم، وغر الناس بمظهره وسمته.
وقد قرر العلماء: أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص.
ونقل ابن القيم عن أبي الفرج بن الجوزي رحمه الله قال: ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية.
قال: وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على هؤلاء، ولما قال له بعضهم يوما: أجعلت محتسبا على الفتوى؟! قال له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟
والإمام أبو حنيفة رغم ذهابه إلى عدم الحجر على السفيه احتراما لآدميته، يقول بوجوب الحجر على المفتي الجاهل المتلاعب بأحكام الشرع، لما وراء تلاعبه من ضرر عام على الجماعة المسلمة، لا يقاوم حقه الفردي في حرية التصرف.
وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ـ شيخ الإمام مالك ـ يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق!
قال بعض العلماء فيما نقله ابن القيم عنه: فكيف لو رأى ربيعة زماننا؟ وإقدام من لا علم له على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب؟!
ونقل أبو عبدالله بن بطة ما رواه الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود: والله إن الذي يفتي الناس في كل مسألة لمجنون، وقول الحكم للأعمش: “لو سمعت منك هذا الحديث قبل اليوم ما كنت أفتي في كثير مما كنت أفتي فيه”.
ثم قال أبو عبدالله: فهذا عبدالله بن مسعود يحلف بالله، إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه مجنون. ولو حلف حالف لبر، إن أكثر المفتين في زماننا هذا مجانين! لأنك لا تكاد تلقى مسئولا عن مسألة، متلعثما في جوابها ولا متوقفا عنها، ولا خائفا لله، ولا مراقبا له أن يقول له: من أين قلت؟ بل يخاف ويجزع أن يقال: سئل فلان عن مسألة فلم يكن عنده جواب، يفتي فيما عيى عنه أهل الفتوى، ويعالج ما عجز عن علاجه الأطباء”.
وقال غير واحد من السلف في بعض أهل زمانه. أن أحدهم يفتي في المسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر!
وأقول: فكيف لو رأى ربيعة وابن بطة وابن القيم ومن قبلهم ومن بعدهم من علماء زماننا نحن؟ وكيف أصبح يفتي في قضايا الدين الكبرى من لا علم له بالأصول ولا بالفروع، ولم يتصل بالقرآن والسنة اتصال الدارس المتعمق، بل اتصال الخاطف المتعجل؟
بل كيف أصبح بعض الشباب يفتون في أمور خطيرة بمنتهى السهولة والسذاجة، مثل قولهم بتكفير الأفراد والمجتمعات، وتحريمهم على أتباعهم حضور الجمع والجماعات.
وكثير من هؤلاء ليسوا من “أهل الذكر” في علوم الشريعة، ولا كلف نفسه أن يجلس إلى أهل الذكر ويأخذ عنهم، ويتخرج على أيديهم، إنما كون ثقافته من قراءات سريعة في كتب المعاصرين، أما المصادر الأصلية فبينه وبين قراءتها مائة حجاب وحجاب، ولو قرأها ما فهمها، لأنه لا يملك المفاتيح المعينة على فهمها وهضمها. فكل علم له لغة ومصطلحات لا يفهمها إلا أهله العارفون به المتخصصون فيه، فكما لا يستطيع المهندس أو الطبيب أن يقرأ كتب القانون وحده دون مرشد ومعلم، ولا يستطيع القانوني أن يقرأ كتب الهندسة وحده، كذلك لا يستطيع أحد هؤلاء أن يدرس كتب الشريعة وحده دون موجه يأخذ بيده.