يعد الحج ركنا مما بني عليه دين الإسلام، وهو من القربات التعبدية، ونوعا من التربية السلوكية التي جمعت أنواع التقرب إلى الله، إذ الحج قائم على بذل المال في سبيل الله، والانتقال بالجسم والروح إلى بقاع أحبها الله سبحانه، وأكرمها منذ الأزل، ومجاهدة النفس وترويضها من أجل القيام بكل ذلك، وتذكير بالرحلة الأبدية، واستخلاص العبر والذكرى من كل أثر هناك في تلك المعاهد والديار المقدسة، إلى غير ذلك من المقاصد الكبرى والمعاني السامية، والأسرار العظمى.
آثار الحج في النفس والحياة :
جاء في كتاب العبادة في الإسلام للشيخ يوسف القرضاوي : قد أكدْنا في فصول هذا الكتاب أن المقصد الأول من العبادات هو الامتثال لله والوفاء بحقه تعالى، ومع هذا لا نُنكر أنَّ وراء العبادات آثارًا طيبة ومنافع جمَّة، في حياة الفرد والجماعة.
والحج هو أكثر العبادات الإسلامية اشتمالًا على الأمور التعبُّدية ـ التي لا تُعرف حكمتها معرفة تفصيلية على وجْه التأكيد ـ ولكن لعله أيضًا أوضح هذه العبادات أثرًا في حياة المسلمين أفرادًا وشعوبًا. وكيف لا وقد قال الله: (وأذِّنْ في الناسِ بالحَج يأتوك رِجالًا وعلى كل ضامِر يأتينَ مِن كلِّ فَجٍّ عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله …) (الحج: 27، 28)
إن هذا التعليل القرآني لهذه الرحلة المباركة التي يقطعها الناس رُكبانًَا ومُشاة قادمين من كل فج عميق، يَفتح لنا بابًا رحبًا للتأمل في هذه المنافع المشهودة التي قدَّمها القرآن في الآية على ذكر اسم الله.
الحج شُحنة روحية إيمانية ومحبة لله ولرسوله:
يقول الشيخ يوسف القرضاوي الحج شحنة روحية كبيرة، يَتزوَّد بها المسلم، فتملأ جوانحه خشيةً وتُقًي لله، وعزمًا على طاعته، وندمًا على معصيته، وتُغذي فيه عاطفة الحب لله ولرسول الله ـ ﷺ ـ ولِمَن عزَّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه، وتُوقِظ فيه مشاعر الأخوة لأبناء دينه في كل مكان، وتُوقِد في صدره شعلة الحماسة لدينه، والغيرة على حُرُماته.
إن الأرض المقدسة وما لها من ذكريات، وشعائر الحج وما لها من أثر في النفس، وقوة الجماعة وما لها من إيحاء في الفكر والسلوك… كل هذا يَرك أثره واضحًا في أعماق المسلم، فيعود من رحلته أصفي قلبًا، وأطهر مَسلكًا، وأقوى عزيمة على الخير، وأصلب عودًا أمام مُغرِيات الشرِّ. وكلَّما كان حَجُه مبرورًا خالصًا لله كان أثره في حياته المستقبلة يقينًا لا ريب فيه، فإن هذه الشحنة الروحية العاطفية، تهُز كِِيانه المعنوي هزًّا، بل تُنشِئه خلقًا آخر، وتُعيده كأنَّما هو مولود جديد يَستقبل الحياة وكلُّه طُهر ونَقاء. ومن هنا قال رسول ـ ﷺ: (من حج فلم يَرفُث ولم يَفسُق رجع مِن ذنوبه كيوم ولدته أمه) (رواه البخاري وأحمد والنسائي)
هل الحج ثقافة وتدريب على المشقات:
يقول الشيخ يوسف القرضاوي والحج فيه توسيع لأفُق المسلم الثقافي، ووصْل له بالعالم الكبير مِن حوله، وقد قالوا: السفَر نصف العلم. وفي الأمثال السائرة أن حكيمًا قال: مَن يعِش يَرَ كثيرًا، فقال آخر: لكن مَن يُسافر يرَى أكثر.
وفي هذا السفر للحج تدريب على ركوب المَشقات، ومفارقة الأهل والوطن، والتضحية بالراحة والدَّعة في الحياة الرتِيبة بين الآل والصحاب، ولم تَشأ حكمة الله أن تجعل هذه الرحلة إلى بلد مثل”سويسرا” أو “لبنان” أو غيرهما من البلاد التي يتخذها الناس مَصِيفًا أو مَشْتَى. ولكنْ شاء الله أن يكون الحج إلى وادٍ غير ذي زرع لا يَصلح مُصطافًا ولا مَترعًا، وذلك تربية للمسلم على احتمال الشدائد، والصبر على المكاره، ومواجهة الحياة كما فَطَرها الله بأزهارها وأشواكها، بشهدها وصَابِها، بحَرِّها وقَرِّها. فهو يَلتقي مع الصوم في إعداد المسلم للجهاد.
وحياة الحاج أشبه بحياة الكشاف في بساطتها وخشونتها، حياةُ تنقل وارتحال، واعتماد على النفس، وبُعد عن الترف والتكلف والتعقيد، الذي يناسب حياة الخيام في مِنًى وعرفات.
وقد تَجلَّت هذه الحكمة حين جعل الله الحج دائرًا مع السَّنة القمرية، فأشْهُر الحج المعلومات تبدأ بشهر شوال، وتنتهى بذي الحجة، وهي أشهر ـ كما نعلم ـ تأتي أحيانا في وَقْدَة السيف وأحيانًا في زمهرير الشتاء ليكون المسلم على استعداد لتحمُّل كل الأجواء، والاصطبار على كل ألوان الصعوبات.
هل يمكن أن يكون في الحج منافع التجارية:
والحج من الجانب المادى فرصةٌ مُتاحة لتبادل المنافع التِّجارية على نطاق واسع بين المسلمين.
وقد كان بعض المسلمين في زمن الرسول الله ـ ﷺ ـ يتحاشَون التجارة في أيام الحج ويَتَحرَّجون من كل عمل دنيوي يَجْلِب لهم ربحًا أو يُدِرُّ عليهم رزقًا، خشية أن يَنال ذلك من عبادتهم، أو يَحُطَّ من مَثُوبتهم عند الله ـ عز وجل ـ فأجاز الله الكريم لهم ذلك، ما دامت النِيَّة خالصة، والمقصود الأصلي هو الحج، ولكل امرئ ما نوى.
روى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عُكَاظ ومَجَنَّة وذُو المَجَاز أسواقًا في الجاهلية. فتَأَثَّموا ـ أيْ تحرَّجوا ـ أن يَتَّجِروا في الموسم ـ أيْ موسم الحج ـ فسألوا رسول الله ـ ﷺ ـ عن ذلك. فنزلت الآية: (لَيْسَ عَلَيكم جُنَاح أن تَبْتَغوا فضلًا من ربكم) (البقرة: 198) قال في تفسير المنار: (كان بعض المشركين وبعض المسلمين يتَأثَّمون في أيام الحَج من كل عمل حتى كانوا يقْفِلون حوانيتهم، فعلَّمهم الله تعالى أن الكسب طلبُ فضلٍ من الله لا جناح فيه مع الإخلاص، وقوله تعالى (من ربكم) يُشعِر بأن ابتغاء الرزق مع ملاحظة أنه فضْل من الله تعالى نوع من أنواع العبادة. ورُوى أن عمر قال لسائل في هذا المَقام: هل كنا نعيش إلا على التجارة؟
من معاني الحج المساواة والوحدة والسلام:
والحج تدريب عملي للمسلم على المبادئ الإنسانية العُليا التي جاء بها الإسلام، فقد أراد الإسلام ألا تكون مبادئه وقيَمه الاجتماعية مجرد شعارات أو نداءات، بل ربطها بعباداته، وشعائره ربطًا وثيقًا، حتى تخط مجراها في عقل المسلم وقلبه فهْمًا وشعورًا، ثم تخط مجراها في حياته سلوكًا وتطبيقًا.
وقد رأينا في صلاة الجماعة كيف تُنمَّى معاني الأخوة والمساواة والحرية. وهنا في الحج نرى معنى المساواة في أجلَى صورة وأتمها. فالجميع قد اطَّرحوا الملابس والأزياء المُزخرفة التي تختلف باختلاف الأقطار، واختلاف الطبقات، واختلاف القُدُرات، واختلاف الأذواق، ولبِسوا جميعًا ذلك اللباس البسيط ـ الذي هو أشبه ما يكون بأكفان الموتى ـ يَلبَسه الملك والأمير، كما يَلبَسه المسكين والفقير، وإنهم ليطوفون بالبيت جميعًا فلا تُفرِّق بين من يَملِك القناطير المقنطرة، ومن لا يَملِك قوت يومه، ويقفون في عرفات ألوفًا ألوفًا، فلا تُحِسُّ بفقر فقير، ولا غِنَى غَنِي، ولا تُحِس حين تراهم في ثيابهم البِيض وفي موقفهم المُزدحِم العظيم إلا أنَّهم أشبه بالناس في ساحة العرْض الأكبر يوم يخرجون من الأجداث إلى ربهم يَنسِلون.
ولقد كانت قريش في الجاهلية ترى لنفسها فضلًا على سائر العرب فتترفع عن الوقوف معهم في عرفات وتقِف في مُزدَلِفة، فأبطل الإسلام هذه العادة، وقال تعالى أن ذكر بعض أعمال الحج: (ثُمَّ أفيضوا مِن حيثُ أفاض الناس) (البقرة: 199 ) كأنه يقول: (بعد ما تبين لكم ما تقدم كله من أعمال الحج، ليس فيها امتياز أحد على أحد، ولا قَبِيل على قَبِيل، وعَلِمتم أن المساواة وترك التفاخر من مقاصد هذه العبادة بقي شيء آخر، وهو أن تلك العبادة المميزة لا وجه لها، فعليكم أن تُفيضوا مع الناس من مكان واحد) (من تفسير الآية في النار).
ولمَّا كانوا في الجاهلية يَتَّخذون مِن موسم الحج مجالًا للتفاخر بالأنساب والآباء، وقَف النبي ـ ﷺ ـ يَخطُبهم في أواسط أيام التشريق ويُعْلِمهم بمبدأ الإسلام العالمي: “يا أيها الناس.. إن ربكم واحد وإن أباكم واحد.. ألا لا فضْل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى. أَبَلَّغْتُ؟ قالوا: بَلَّغ رسول الله ـ ﷺ ـ (رواه أحمد).
وفي الحج نرى معنى الوَحدة جليًّا كالشمس: وَحدة في المشاعر، ووَحدة في الشعائر، ووَحدة في الهدف، ووحدة في العمل، ووحدة في القول. لا إقليمية ولا عَصرية، ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، أنما هم جميعًا مسلمون، برب واحد يؤمنون، وبِبَيت واحد يَطوفون، ولكتاب واحد يَقرؤون، ولرسول واحد يَتَّبعون، ولأعمال واحدة يُؤَدُّون. فأي وَحدة أعمق من هذه وأبعد غَوْرًا؟
ومن المبادئ التي سبَق الإسلام بالدعوة إليها: السلام.
والحج طريقة فذَّة لتدريب المسلم على السلام، وإشرابه روح السلام. فهو رحلة سلام إلى أرض سلام، في زمن سلام.
أرض الحج هي البلد الحرام والبيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا (ومن دَخَلَه كان آمِنًا) (آل عمران: 97) والذي قال فيه عمر: لو وجدت فيه قاتل أبي ما مسَّتْه يدي.
إنها منطقةُ أمانٍ فريد في نوعه، شمَل الطير في الجو، والصيد في البَرِّ، والنبات في الأرض، فهذه المَنطِقة لا يُصاد صيدها ولا يُرَوَّع طيرها ولا حيوانها، ولا يُقطع شجرها ولا حشائشها!!
ومعظم أعمال الحج يَقَع في شهرين ـ ذي القعدة وذي الحجة ـ من الأشهر الحُرُم، التي جعلها الله هُدنَة إجبارية تُغمَد فيها السيوف، وتُحقَن فيها الدماء، ويُوقَف القتال (جعَل اللهُ الكعبَةَ البيتَ الحرامَ قِيامًا للناسِ والشهْر الحرام) (المائدة: 97)
والمسلم حين يُحرِم بالحج يظل فترة إحرامه في سلام حقيقي، مع من حوله وما حوله، فلا يجوز له أن يقطع نباتًا أو يَعْضِدَ شجرة، كما لا يجوز له أن يذبح حيوانًا صادَه غيرُه له، أو يَرمي هو صيدًا في الحَرَم، أو خارجه قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم) (المائدة: 95) و(حُرِّمَ عليكم صيد البَرِّ ما دمتم حُرُمًا) (المائدة: 96)
بل لا يجوز للمُحْرِم أن يَحلِق شَعَرَ نفسه أو يَقُص ظُفره، حتى يَتَحلل من إحرامه فيَقُص ويَحلِق أو يُقصِّر.
فهل رأت الدنيا تطبيقًا عمليًا للسلام وتدريبًا عليه. كهذا الذي صنعه الإسلام في رحلة الحج: رحلة السلام إلى أرض السلام، في زمن السلام.