ذهب جمهور الفقهاء إلى نجاسة القيء إلا أنهم اعتمدوا في ذلك على حديث يدور بين الضعف والاختلاق، لذلك كان الراجح أن القيء ليس نجسا؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة إلا ما دل على نجاسته دليل، ولم يقم دليل صحيح على نجاسة القيء، وممن ذهب إلى طهارة القيء ابن حزم الظاهري، والشوكاني، وتلميذه صديق حسن خان.

ما هي القيء وهل هو نجس:

يقول الدكتور حسام الدين عفانة أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس :-

القيء هو الطعام الذي يخرج من المعدة بعد استقراره فيها وذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن القيء نجس ووافقهم المالكية في حالة تغيره عن حال الطعام فإن لم يتغير فهو طاهر.

وخالف في ذلك جماعة من أهل العلم فذهبوا إلى أن القيء طاهر وهو الذي أرجحه لأن القائلين بنجاسته ليس معهم دليل يعتمد عليه ، وأما الذين قالوا بأنه طاهر فاعتمدوا على قاعدة أن الأصل في الأعيان الطهارة حتى يأتي دليل ناقل عنها ولا دليل يخرج قيء الآدمي عن الطهارة إلى النجاسة .

قال الشوكاني :( والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه ).

وقال صديق حسن خان شارحاً كلام الشوكاني ما نصه : –

( لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها، ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع والأصل البراءة من ذلك ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى وقد أرشدنا رسول الله إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله تعالى عنها وأنها عفو فما لم يرد فيه شيء من الأدلة الدالة على نجاسته فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد أو غلط في الاستدلال كما يدعيه بعض أهل العلم من نجاسة ما حرمه الله تعالى زاعماً أن النجاسة والتحريم متلازمان . وهذا الزعم من أبطل الباطلات فالتحريم للشيء لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا التزام فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك).

وقال الشوكاني في موضع آخر :( حق استصحاب البراءة الأصلية وأصالة الطهارة أن يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك وإن عجز عنه أو جاء بما لا تقوم به الحجة فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة ).

وقال أيضاً :( الأصل في جميع الأشياء هو الطهارة وأنه لا ينقل عن ذلك إلا ناقل صحيح صالح للاحتجاج به غير معارض بما يرجح عليه أو يساويه فإن وجدنا ذلك فبها ونعمت وإن لم نجد ذلك كذلك وجب علينا الوقوف في موقف المنع ونقول لمدعي النجاسة : هذه الدعوى تتضمن أن الله سبحانه أوجب على عباده واجباً هو غسل هذه العين التي تزعم أنها نجسة وأنه يمنع وجودها صحة الصلاة بها فهات الدليل على ذلك .

فإن قال حديث عمار :( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني ) قلنا : هذا لم يثبت من وجه صحيح ولا حسن ولا بلغ إلى أدنى درجة من الدرجات الموجبة للاحتجاج به والعمل عليه فكيف يثبت به هذا الحكم الذي تعم به البلوى وهو لا يصلح لإثبات أخف حكم على فرد من أفراد العباد ]

هل اتفق العلماء على نجاسة القيء:

قال الشيخ الألباني:

إن دعوى اتفاق العلماء على نجاسة القيء دعوى منقوضة فقد خالف في ذلك ابن حزم حيث صرح بطهارة قيء المسلم، وهو مذهب الإمام الشوكاني في الدرر البهية وصديق خان في شرحها حيث لم يذكرا في النجاسات قيء الآدمي مطلقاً وهو الحق ثم ذكرا أن في نجاسته خلافاً ورجحا الطهارة بقولهما :( والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه ) وذكر نحوه الشوكاني أيضاً في السيل الجرار . انتهى.

واحتج الجمهور على نجاسة القيء بما روي في الحديث أن النبي قال :( يا عمار إنما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم والمني ] رواه الدار قطني . وهو حديث ضعيف لا يصح الاستدلال به .

قال الإمام النووي : -( حديث عمار هذا رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده والدارقطني والبيهقي ، قال البيهقي : هو حديث باطل لا أصل له وبين ضعفه الدار قطني والبيهقي ).

وتكلم الحافظ ابن حجر على حديث عمار وبين ضعفه وذكر أن فيه رجلاً متهماً بالوضع وذكر أن العلماء اتفقوا على ترك حديثه .

ويؤيد ذلك أن القيء عند الأطباء عبارة عن الطعام الذي أكله الشخص ومعه العصارات الهاضمة وخاصة حامض الهيدروكلوريك . هذا ما يتعلق بكون القيء طاهرا أم نجسا وقد تبين لنا أنه باق على أصل الطهارة ولم يثبت دليل صحيح ناقل له عنها .

هل القيء ينقض الوضوء:

يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيم فقه الطهارة :

ومما وقع الخلاف في طهارته أو نجاسته: القيء فذهب بعض الفقهاء إلى القول بنجاسته، ورده الإمام الشوكاني في (السيل الجرار) وقال: قد عرفناك في أول كتاب الطهارة أن الأصل في جميع الأشياء هو الطهارة، وأنه لا ينقل عن ذلك إلا ناقل صحيح صالح للاحتجاج به، غير معارض بما يرجح عليه أو يساويه.

فإن وجدنا ذلك فبها ونعمت، وإن لم نجد ذلك كذلك وجب علينا الوقوف في موقف المنع، ونقول لمدّعي النجاسة: هذه الدعوى تتضمن أن الله ـ سبحانه ـ أوجب على عباده واجبا هو غسل هذه العين التي تزعم أنها نجسة، وأنه يمنع وجودها صحة الصلاة بها، فهات الدليل على ذلك.

فإن قال: حديث عمار: “إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني”.

قلنا: هذا لم يثبت من وجه صحيح ولا حسن، ولا بلغ إلى أدنى درجة من الدرجات الموجبة للاحتجاج به والعمل عليه، فكيف يثبت به هذا الحكم الذي تعم به البلوى وهو لا يصلح لإثبات أخف حكم على فرد من أفراد العباد.

فإن قال: قد ورد أنه ينقض الوضوء.

قلنا: فهل ورد أنه لا ينقض الوضوء إلا ما هو نجس؟

فإن قلت: نعم، فأنت لا تجد إليه سبيلا، وإن قلت: قد قال بعض أهل الفروع : إن النقض فرع التنجيس.

قلنا: فهل هذا القول من هذا البعض حجة على أحد من عباد الله؟

فإن قلت: نعم، فقد جئت بما لم يقل به أحد من أهل الإسلام، وإن قلت: لا، قلنا: فما لك والاحتجاج بما لم يحتج به أحد على أحد؟ .

حكم لبن غير المأكول:

ومما اختُلف فيه أيضا: لبن غير المأكول، مثل لبن الأتان (أنثى الحمار) ومثل ألبان السباع المحرم أكلها عند الجمهور، وإن كان من الصعب أن يحصل الإنسان على ألبان هذه السباع المفترسة من الناحية العملية.

واستثني من ذلك لبن المرأة المسلمة، فهو طاهر بالإجماع.

ونازع الإمام الشوكاني في نجاسة لبن غير المأكول أيضا، قائلا:

الكلام على هذا كالكلام على الذي قبله، وليس في الحكم بنجاسة اللبن على العموم ولا على الخصوص أثارة من علم، ولا هو مما تستقذره الطباع لا من المأكول ولا من غيره، و لا قام إجماع على نجاسته.