يقول الدكتور يوسف القرضاوي – رحمه الله تعالى- عن الخلاف في حلي الذهب والفضة للنساء:
أما حلي الذهب والفضة للنساء، فلم يرد في شأنها شيء في كتب صدقات النبي -ﷺ-، ولا جاء نص صحيح صريح بإيجاب الزكاة فيه أو نفيها عنه، وإنما وردت أحاديث اختلف الفقهاء في ثبوتها، كما اختلفوا في دلالتها.
ومن أسباب الاختلاف أيضًا: أن قومًا نظروا إلى المادة التي صنع منها الحلي، فقالوا: إنها نفس المعدن الذي خلقه الله ليكون نقدًا، يجرى به التعامل بين الناس، والذي وجبت فيه الزكاة بالإجماع، ومن ثم أوجبوا فيه الزكاة كسبائك الذهب والفضة ونقديهما.
وأن آخرين نظروا إلى أن هذا الحلي بالصناعة والصياغة خرج من مشابهة النقود، وأصبح من الأشياء التي تقتنى لإشباع الحاجات الشخصية كالأثاث والمتاع والثياب، وهذه لا تجب فيها الزكاة بالإجماع، لأن الزكاة -كما عرفنا من هدى الرسول- إنما تجب في المال النامي أو القابل للنماء والاستغلال، ومن هنا قال هؤلاء: لا زكاة في الحلي.
وهذا الخلاف إنما هو في حكم الحلي المباح، أما الحلي الذي حرمه الإسلام، فقد أجمعوا على وجوب زكاته.
وسنرد المختلفين هنا إلى فريقين:
أولاً: فريق القائلين بتزكية الحلي كالنقود مطلقًا، بإخراج ربع عشره كل عام.
ثانيًا: والفريق الثاني: من لم ير ذلك، بأن لم يوجب فيه زكاة قط، أو أوجبها مرة واحدة في العمر، أو أوجبها بقيود معينة.
أولا – القائلون بزكاة الحلي:
روى البيهقي وغيره عن علقمة أن امرأة ابن مسعود سألته عن حلي لها فقال: إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة قالت: أضعها في بني أخ لي في حجري؟ قال: نعم قال البيهقي: وقد روى هذا مرفوعًا إلى النبي -ﷺ-، وليس بشيء (السنن الكبرى: 4/134، باب “من قال في الحلي زكاة”).
وروى أيضًا (السنن الكبرى: 4/134، باب “من قال في الحلي زكاة”) عن شعيب بن يسار أن عمر كتب إلى أبى موسى: “أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن حليهن”.
ولكن هذا ليس بثابت عن عمر (قال البيهقي: هذا مرسل؛ شعيب بن يسار لم يدرك عمر)، ولذا روى ابن أبى شيبة عن الحسن قال: لا نعلم أحدًا من الخلفاء قال: في الحلي زكاة (المصنف: 4/28).
وروى البيهقي عن عائشة قالت: لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته (السنن الكبرى – الصفحة السابقة، وانظر “الأموال” ص 440) ولكن صح عن عائشة خلاف ذلك كما سيجيء.
وعن عبد الله بن عمرو -أنه كان يكتب إلى خازنه سالم- أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة (المرجع السابق)، وروى عنه أبو عبيد أنه حلي ثلاث بنات له بستة آلاف دينار، فكان يبعث مولى له جليدًا كل عام فيخرج زكاته منه (الأموال ص 440).
وفى أسانيد هذه الآثار كلام، لذا قال أبو عبيد: لم تصح زكاة الحلي عندنا عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود (المصدر السابق ص 446) قال ابن حزم: وهو عنه في غاية الصحة (المحلى: 6/75).
والقول بزكاة الحلي روى عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وعبد الله بن شداد، وجابر بن زيد، وابن شبرمة، وميمون بن مهران، والزهري، والثوري، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى، والحسن ابن حي (انظر مصنف ابن أبى شيبة: 4/27، والأموال ص 441 – 442، والمحلى لابن حزم: 6/76، والمغنى لابن قدامة: 3/100 – مع أنه قد روى عن ابن المسيب: أن زكاة الحلي إعارته كما سيأتي).
أدلة هذا القول:
1- واستند القائلون بزكاة الحلي أولاً إلى إطلاق الآية الكريمة: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة: 34) فالذهب والفضة في الآية يشمل الحلي كما يشمل النقود والسبائك، فما لم تؤد الزكاة منها فهي كنز يكوى به صاحبه يوم القيامة.
2- واستندوا ثانيًا إلى عموم قوله – ﷺ -: “في الرقة ربع العشر وليس فيما دون خمس أواق صدقة” مفهومه: أن فيها صدقة إذا بلغت خمس أواق، وإلى عموم ما جاء في زكاة الذهب مثل: “ما من صاحب ذهب لا يؤدى زكاته” الحديث، وقد تقدم.
3- واستدلوا ثالثًا بما ورد من الأحاديث في زكاة الحلي خاصة، وقد صححها طائفة من الأئمة، ومنها:
(أ) ما روى أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة (عند ابن أبى شيبة وأبى عبيد أنها امرأة من اليمن) أتت رسول الله -ﷺ- ومعها ابنة لها، وفى يد ابنتها مسكتان (أسوارتان) غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فألقتها إلى النبي -ﷺ- وقالت: هما لله ورسوله (الحديث سكت عنه أبو داود قال المنذري في مختصر السنن: وأخرجه الترمذي بنحوه وقال: لم يصح في هذا الباب عن النبي -ﷺ- شيء، وأخرجه النسائي مسندًا ومرسلاً، وذكر أن المرسل أولى بالصواب – انظر مختصر السنن للمنذري: 2/175، وذكره في كتاب الزكاة من “الترغيب” وأشار إليه بعلامة الضعف، حيث صدره بلفظه: “روى” وأهمل الكلام عليه في آخره، وهذا علامة الإسناد الضعيف، كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه “الترغيب”: 1/555، 556 – طبع مصطفى الحلبي – الطبعة الثانية، وسيأتي رأى أبى عبيد فيه وتعليقنا عليه.
وقال الحافظ في التلخيص ص 183: أخرجه أبو داود من حديث حسين المعلم وهو ثقة عن عمرو وفيه رد على الترمذي حيث جزم بأنه لا يعرف إلا من حديث ابن لهيعة والمثنى بن الصباح عن عمرو، وقد تابعهم حجاج بن أرطأة أيضًا..أ هـ).
(ب) وما روى أبو داود -واللفظ له- والدارقطني والحاكم والبيهقي عن عائشة أنها قالت: “دخل على رسول الله – ﷺ -، فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: ما هذا يا عائشة ؟ فقالت: صنعتهن أتزين لك -يا رسول الله- قال: أتؤدين زكاتهن ؟ قالت: لا، أو ما شاء الله، قالت: قال: هو حسبك من النار” (قال الحافظ في التلخيص ص 184: إسناده على شرط الصحيح “أ هـ” ولكن هذا الحديث يخالف ما صح عن عائشة أنها كانت لا تزكى حلى بنات أخيها مع ما صح عنها من تزكية مال اليتامى) (والفتخات: خواتيم كبار كان النساء يتحلين بها).
ثم ما رواه أبو داود وغيره عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، أكنز هو ؟ قال: “ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكى فليس بكنز”.
قال المنذري: في إسناده عتاب بن بشير -أبو الحسن الحراني- وقد أخرج له البخاري، وتكلم فيه غير واحد (مختصر السنن: 2/175) (والأوضاح: نوع من الحلي).
ثانيا- القائلون بعدم وجوب الزكاة في الحلي:
(يمكننا أن ندخل ضمن هذا المذهب من قال بزكاة الحلي مرة واحدة في العمر، كما هو مروي عن أنس، ومن قال بأن زكاة الحلي عاريته كما هو مروي عن بعض الصحابة والتابعين كما سيأتي لأن غرضنا من القول بعدم الزكاة في الحلي: عدم الزكاة الحولية المقدرة المعهودة).
قال ابن حزم في المحلى: قال جابر بن عبد الله وابن عمر: لا زكاة في الحلي، وهو قول أسماء بنت أبي بكر، وروى أيضًا عن عائشة، وهو عنها صحيح، وهو قول الشعبي وعمرة بنت عبد الرحمن، وأبي جعفر محمد بن علي، وروى أيضًا عن طاووس والحسن وسعيد بن المسيب، واختلف فيه قول سفيان الثوري، فمرة رأى فيه الزكاة، ومرة لم يرها أ هـ (المحلى: 6/176).
وهو قول القاسم بن محمد ابن أخي عائشة، وإليه ذهب مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهو أظهر قولي الشافعي كما قال الخطابى (معالم السنن: 3/176، وهو المذهب المعتمد لدى الشافعية كما في المجموع: 6/136) وهو مذهب أبى عبيد كما سيأتي.
أدلة هذا القول:
تتلخص أدلة هذا القول فيما يلي:
أولاً: أن الأصل براءة الذمم من التكاليف ما لم يرد بها دليل شرعي صحيح، ولم يوجد هذا الدليل في زكاة الحلي، لا من نص، ولا من قياس على منصوص.
ثانيًا: أن الزكاة إنما تجب في المال النامي أو المعد للنماء، والحلي ليس واحدًا منهما، لأنه خرج عن النماء بصناعته حليًا يلبس ويستعمل وينتفع به فلا زكاة فيه، وهذا كما قلنا في العوامل من الإبل والبقر، فقد خرجت باستعمالها في السقي والحرث عن النماء وسقطت عنها الزكاة.
ثالثًا: يؤيد هذا الاستدلال ما صح عن عدة من الصحابة، رضى الله عنهم، من عدم وجوب الزكاة فيه.
فقد روى مالك في الموطأ عن القاسم بن محمد (معالم السنن: 3/176، وهو المذهب المعتمد لدى الشافعية كما في المجموع: 6/136): أن عائشة زوج النبي -ﷺ- كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها يلبسن الحلي، فلا تخرج عن حليهن الزكاة (هو القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخي عائشة، وأحد الفقهاء السبعة في المدينة).
وروى عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج عن حليهن الزكاة (الموطأ: 1/250 -طبع الحلبي- باب “مالا زكاة فيه من الحلي والتبر والعنبر”).
وروى ابن أبى شيبة عن القاسم قال: كان ما لنا عند عائشة، وكانت تزكيه إلا الحلي، وعن عمرة قالت: كنا أيتامًا في حجر عائشة، وكان لنا حلي فكانت لا تزكيه.
وروى ابن شيبة وأبو عبيد وغيرهما مثل ذلك عن جابر بن عبد الله وأسماء بنت أبي بكر بالإضافة إلى عائشة وابن عمر (انظر المصنف لابن أبى شيبة: 4/28، والأموال ص 443).
فعن أبي الزبير عن جابر قال: لا زكاة في الحلي، قلت: إنه يكون فيه ألف دينار، قال: يعار ويلبس، وفي رواية قال: إن ذلك لكثير.
وعن أسماء: أنها كانت لا تزكي الحلي، قال الشافعي: ويروى عن ابن عباس وأنس بن مالك -ولا أدري أثبت عنهما- معنى قول هؤلاء: “ليس في الحلي زكاة” (الأم: 2/41- طبع الفنية المتحدة، والقول بعدم الزكاة رواه عن أنس أبو عبيد ص 442 والبيهقي: 4/138).
قال القاضي أبو الوليد الباجي في شرح الموطأ: وهذا مذهب ظاهر بين الصحابة، وأعلم الناس به عائشة، رضى الله عنهما، فإنها زوج النبي -ﷺ-، ومن لا يخفى عليها أمره في ذلك.
وكذلك عبد الله بن عمر، فإن أخته حفصة كانت زوج النبي -ﷺ-، وأمر حليها لا يخفى على النبي -ﷺ-، ولا يخفى عليها حكمه فيه (المنتقى شرح الموطأ – لأبى الوليد الباجي: 2/107).
ومما يدل على انتشار هذا بين الصحابة والتابعين ما قاله يحيى بن سعيد: سألت عمرة عن زكاة الحلي، فقالت: ما رأيت أحدًا يزكيه (المصنف لابن أبى شيبة: 4/28، وانظر الأموال ص 442).
وعن الحسن قال: لا نعلم أحدًا من الخلفاء قال: في الحلي زكاة (المصنف لابن أبى شيبة: 4/28، وانظر الأموال ص 442).
رابعًا: روى ابن الجوزي في “التحقيق” بسند عن عافية بن أيوب عن الليث بن سعد عن أبى الزبير عن جابر عن النبي -ﷺ-، قال: ليس في الحلي زكاة (ورواه البيهقي في “المعرفة” من حديث عافية بن أيوب عن الليث عن أبى الزبير عن جابر ثم قال: لا أصل له، وإنما يروى عن جابر من قوله وعافية قيل: ضعيف، وقال ابن الجوزي: لا أعلم فيه جرحًا، وقال البيهقي: مجهول، ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زرعه (التلخيص ص 183).
[وانظر: الجرح والتعديل قسم 2 من المجلد 3 ص 245، وفيها أن أبا زرعة سئل عنه فقال: “هو مصري ليس به بأس”، ولم يذكر ابن أبى حاتم شيئًا عنه أكثر من هذا).
وقال البيهقي: عافية مجهول، وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه جرحًا، وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: رأيت بخط شيخنا المنذري أنه قال: عافية ابن أيوب لم يبلغني فيه ما يوجب تضعيفه (انظر نصب الراية: 2/374، 375 والمراعاة على المشكاة: 3/82).
خامسًا: قال -ﷺ-: “يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكم” (رواه البخاري في باب “صلاة العيدين” من صحيحه مطولاً، ثم ذكره في الزكاة – باب “الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر”- انظر “فتح الباري“: 3/210، 211، ورواه الترمذي في كتاب “الزكاة” -باب “ما جاء في زكاة الحلي”- انظر “صحيح الترمذي بشرح ابن العربى”: 3/129) (رواه البخاري والترمذي وغيرهما) قال ابن العربي: هذا الحديث يوجب بظاهره أن لا زكاة في الحلي، بقوله للنساء: “تصدقن ولو من حليكم” ولو كانت الصدقة فيه واجبة لما ضرب المثل به صدقة التطوع (شرح الترمذي: 3/130، 131) يعنى أنه لا يحسن أن يقال: تصدقوا ولو من الإبل السائمة أو تصدقوا ولو مما أخرجت الأرض من القمح أو مما أثمرت النخيل من التمر، ما دامت الصدقة من هذه الأشياء لازمة ومفروضة، إنما يقال مثلاً: تصدق ولو من لبن بقرتك، تصدق ولو من طعامك وزادك، ونحو ذلك مما لا تجب فيه الزكاة المفروضة.
مناقشة وترجيح قول المانعين لوجوب الزكاة في الحلي:
والذي أرجحه بعد هذا المعترك الفقهي: أن قول المانعين لوجوب الزكاة في الحلي أقوى وأولى، مع تفصيل وقيود سأذكرها.
فهذا القول هو الذي يوافق المبادئ العامة في وعاء (الوعاء: كلمة يستعملها رجال المالية والضرائب في الأموال التي تفرض عليها الضرائب وهذا هو المصطلح الشائع في مصر وفي بعض البلاد العربية الأخرى كسوريا يستخدمون بدلها: المطرح أو المصدر) الزكاة، ويجعل لها نظرية مطردة ثابتة، وهي نظرية الوجوب في المال النامي بالفعل، أو الذي من شأنه أن ينمى، كالنقود، فهي مال قابل لأن ينمى، بل يجب أن ينمى ولا يكنز فيستحق صاحبه العذاب بخلاف الحلي المباح للمرأة المعتاد لمثلها، فإنه زينة ومتاع شخصي لها، يشبع حاجة من حوائجها التي فطرها الله عليها، وهى الرغبة في التزين والتجمل وقد راعى الإسلام هذه الحاجة الفطرية، فأباح لها من ذلك ما حرم على الرجال من الذهب والحرير.
وإذن يكون الحلي للمرأة كالثياب الأنيقة، والأثاث الفاخر، وألوان الزينات والأمتعة الرائعة التي تقتنيها في البيت مما ليس محرمًا عليها.
بل يكون حلي الذهب والفضة هنا كحلي الجواهر واللآلئ والأحجار الكريمة التي تلبسها وتتحلى بها، وقد أباحها الله بنص القرآن (في مثل قوله تعالى في الآية “14” من سورة النحل: وتستخرجوا منه حلية تلبسونها).
وهذه اللآلئ والجواهر الغالية، وتلك الثياب والأمتعة الثمينة -معفاة من وجوب الزكاة بإجماع الأئمة مع أنها مال عظيم، له قيمة كبيرة.
ولكن الزكاة -كما تبين لنا من الهدي النبوي- لا تجب في كل مال، وإنما تجب -كما قلنا- في المال النامي أو القابل للنماء وما ذلك إلا ليبقى الأصل، وتؤخذ الزكاة من النماء والفضل ولهذا شرط السوم في الماشية، وشرط النماء والفضل عن الحوائج الأصلية وأعفيت دور السكنى ودواب الركوب وأدوات الاستعمال من الزكاة اتفاقًا.
ولقد قرر فقهاء الحنفية أنفسهم -الموجبون للزكاة في الحلي- أن سبب وجوب الزكاة هو: ملك مال معد مرصد للنماء والزيادة فاضل عن الحاجة (انظر البحر الرائق: 2/218).
فهل ينطبق هذا على حلي المرأة المباح، وهو ليس مرصدًا للنماء والزيادة، ولا فاضلاً، ما دام مستعملاً في حدود القدر المعتاد لمثلها؟
ولقد أسقط الحنفية أيضًا الزكاة عن “المواشي العاملة” في السقي والحرث ونحوها مع وجوب الزكاة في كنسها المتخذ للنماء وهو السائمة -لأنها صرفت عن جهة النماء إلى الاستعمال، فأصبحت كالأدوات والأشياء المعدة للانتفاع الشخصي، وهو القول الراجح لما بيناه فى موضعه.
فكيف جاز عند الحنفية -وهم أصحاب قياس- أن يسقطوا الزكاة عن العوامل، ويوجبوها في الحلي المباح، وهما من باب واحد؟
إن يقيني أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين ثبت تماثلهما وإذا رأينا هذه التفرقة في قضية دل ذلك على خطأ في تصورنا وحكمنا ولهذا احتج أبو عبيد على من أوجب زكاة الحلي وأسقط زكاة العوامل بأنه فرق بين متماثلين، كما سيأتي.
وأوضح من ذلك: أنه يستبعد في حكم الشريعة العادلة: أن يعفى من الزكاة حلي اللؤلؤ والماس والجواهر الثمينة، التي يقدر الفص الواحد منها بآلاف الدنانير، ولا يتحلى بها عادة إلا النساء الثريات والمقتدرات، وزوجات الأثرياء الكبار وبناتهم ثم توجب الشريعة الزكاة في حلي الذهب والفضة، التي يتحلى بها عادة المتوسطات الحال، بل كثير من الفقيرات، كما نرى في نساء الريف والقرى، وزوجات الفلاحين والعمال ورقاق الحال إلى اليوم؟
هل يعقل أن تبيح الشريعة الغراء لهؤلاء النساء الاستمتاع بحلي الذهب والفضة ثم تأتي فتفرض عليهن إخراج ربع عشره في كل عام، على حين تعفى أرباب اللؤلؤ والماس ونحوهما؟
إن الذي نعقله هو إعفاء هؤلاء وأولئك جميعًا؛ لأن هذا الحلي وذاك متاع شخصي، وليس مالاً مرصدًا للنماء.
ومما يعضد ما رجحناه: أن القاعدة في كل مال: أن يؤخذ زكاته منه نفسه؛ من الأصل والنماء معًا، أو من النماء فقط ولا يخرج عن هذه القاعدة، إلا لضرورة، كما في أخذ السياه من الإبل إذا كانت أقل من خمس وعشرين وقد وضحنا حكمة ذلك في زكاة الإبل.
وهنا كيف تستطيع المرأة إخراج الزكاة من حليها إذا كانت لا تملك غيره، كما هو شأن الكثيرات ؟ إن معنى ذلك: أن تكلف بيعه أو بيع جزء منه، أو بيع شيء آخر من متاعها، حتى يمكنها أداء ما وجب عليه فيه.
فهل جاءت الشريعة بمثل هذا في باب الزكاة كله، فيما عدا ما ذكرناه من قضية الإبل والشياه؟ هل كلفت الشريعة المزكى أن يدفع زكاة ماله من مال آخر؟ أو كلفته ببيع ماله ليدفع منه الزكاة؟
ذلك ما لم تجيء به الشريعة فيما رأيت، فكيف خالفت هذا الأصل هنا؟
وكل هذا تأييد لنظرية “المال النامي” الذي يفترض أن تؤخذ الزكاة من نمائه ليبقى الأصل سالمًا لصاحبه، ومصدر دخله متجدد له.
إن نتيجة إيجاب الزكاة في الحلي -وهو لا ينمى- أن نأتي على مقدار ثمنه في جملة سنين، وهذا ما أخبر به بعض من أوجب فيه الزكاة، فقد سئل ميمون بن مهران عن زكاة الحلي، فقال: “إن لنا طوقًا، لقد زكيته حتى آتى على نحو من ثمنه” (الأموال ص 442) وأرى أن روح الشريعة في الزكاة تأبى هذا.
وإذا كان وجوب الزكاة في المال يدور على النماء تبين لنا صحة ما ذكره ابن العربى في أحكام القرآن: “أن قصد النماء لما أوجب الزكاة في العروض وهى ليست بمحل لإيجاب الزكاة -كذلك قصد قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذها حليًا يسقط الزكاة، فإن ما أوجب ما لم يجب يصلح لإسقاط ما وجب، وتخصيص ما عم وشمل” أ هـ (أحكام القرآن لابن العربى: 2/919، وانظر شرح الترمذي له: 3/131).
على أن النصوص التي أوجبت الزكاة في الفضة والذهب إنما لاحظت فيهما اعتبار “الثمينة” ولهذا عبرت عن الفضة بالورق والرقة -وهي النقود الفضية- وعبرت عن الذهب بالدنانير -وهي النقود الذهبية- حتى الآية الكريمة التي تقول: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) (التوبة: 34) يدل ذكر الكنز والإنفاق فيها على أن المراد بالذهب والفضة فيها: النقود، لأنها هي التي تكنز وتنفق، أما الحلي المعتاد المستعمل، فلا يعتبر كنزًا، كما أنه ليس معدًا للإنفاق بطبيعته.
وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره وأيده الفقيه الحجة الإمام أبو عبيد في كتابه القيم “الأموال” ويحسن بي أن أسوق هنا نص عبارته لما فيها من نصاعة الحق وقوة الدليل، قال رحمه الله:
“أن النبي -ﷺ- قال: “إذا بلغت الرقة خمس أواق ففيها ربع العشر” فخص رسول الله -ﷺ- بالصدقة: “الرقة” من بين الفضة، وأعرض عن ذكر ما سواه فلم يقل -إذا بلغت كذا ففيها كذا، ولكنه اشترط الرقة من بينها ولا يعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب يقع إلا على الورق (الفضة) المنقوشة، ذات السكة السائرة في الناس (يجب أن نذكر أن أبا عبيد إمام في اللغة، كما هو في الفقه والأثر، وله كتاب “غريب الحديث” صنعه في أربعين سنة، وقد طبع في حيدر آباد بالهند عام 1384هـ (1964م) وظهر منه ثلاثة أجزاء من أربعة) (يعني النقود الفضية).
“وكذلك والأواقي ليس معناها إلا الدراهم، كل أوقية أربعون درهمًا، ثم أجمع المسلمون على الدنانير المضروبة أن الزكاة واجبة عليه كالدراهم، وقد ذكر الدنانير أيضًا في بعض الحديث المرفوع (ذكرنا أشهرها فى نصاب النقود).
“فلم يختلف المسلمون فيهما، واختلفوا في الحلي، وذلك أنه يستمتع به ويكون جمالاً، وأن العين (نقد الذهب)، والورق (نقد الفضة) لا يصلحان لشيء من الأشياء إلا أن يكونا ثمنًا لها، ولا ينتفع منهما بأكثر من الإنفاق لهما، فبهذا بان حكمهما من حكم الحلي الذي يكون زينة ومتاعًا فصار هنا كسائر الأثاث والأمتعة، فلهذا أسقط الزكاة عنه من أسقطها.
“ولهذا المعنى قال أهل العراق: لا صدقة في الإبل والبقر العوامل، لأنها شبهت بالمماليك والأمتعة، ثم أوجبوا الصدقة في الحلي.
“وأوجب أهل الحجاز الصدقة في الإبل والبقر العوامل، وأسقطوها عن الحلي وكلا الفريقين قد كان يلزمه أن يجعلهما واحدًا: إما إسقاط الصدقة عنهما جميعًا، وإما إيجابها فيهما جميعًا.
“وكذلك هما عندنا، سبيلهما واحد، لا تجب الصدقة عليهما، لما قصصنا من أمرهما فأما الحديث المرفوع الذي ذكرناه أول هذا الباب، حين قال للمرأة اليمانية، ذات المسكتين من ذهب: “أتعطين زكاته” ؟ فإن هذا الحديث لا نعلمه يروى إلا من وجه بإسناد قد تكلم الناس فيه قديمًا وحديثًا (قد سبق أن الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وعمرو بن شعيب بن محمد ابن عبد الله بن عمرو بن العاص أحد علماء زمانه (ت 118 هـ) اختلف في توثيقه وتضعيفه، فممن وثقه ابن معين، وابن راهويه والأوزاعى، وصالح جزرة، وذكر البخاري في تاريخه توثيقه، ومع هذا لم يحتج به في جامعه.
وعن أحمد بن حنبل: عمرو بن شعيب له مناكير، وإنما نكتب حديثه لنعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا وقال عنه مرة أخرى: ربما احتججنا بحديثه، وربما وجس في القلب منه.
وقال أبو زرعة: إنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده، قالوا: إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها، كما عيب عليه أنه كان لا يسمع بشيء إلا حدث به.
سئل ابن المدني عنه فقال: ما روي عنه أيوب وابن جريج فذلك كله صحيح، وما روي عمرو عن أبيه عن جده فإنما هو كتاب وجده، فهو ضعيف، وعن يحيى بن معين نحوه.
وقال ابن حبان: إذا روي عن الثقات غير أبيه يجوز الاحتجاج به، وإذا روي عن أبيه عن جده، ففيه مناكير كثيرة، فلا يجوز عندي الاحتجاج بذلك.
وانتهى الذهبي في “الميزان” إلى أن حديثه من قبيل الحسن (ميزان الاعتدال: 3/263 – 268).
وقال الحافظ في الفتح: ترجمة عمرو قوية على المختار، ولكنه حيث لا تعارض (أ هـ) وهنا قد عورضت بما صح عن عائشة وابن عمر وجابر وغيرهم من الصحابة من عدم إخراج زكاة الحلي، وقد عاصر عبد الله بن عمرو -جد شعيب أبي عمرو- هؤلاء الصحابة، فلم يلزمهم بما سمع من رسول الله -ﷺ- في شأن المرأة وابنتها ولو فعل لرجعوا عن أقوالهم، ولنقل ذلك والله أعلم)، فإن يكن الأمر على ما روى، وكان عن رسول الله -ﷺ- محفوظًا، فقد يحتمل معناه أن يكون أراد بالزكاة العارية، كما فسرته العلماء الذين ذكرناهم: سعيد بن المسيب والشعبي والحسن وقتادة في قولهم: “زكاته عاريته” (كان من عادة العرب إذا زفت عروس لا تستطيع أن تزين نفسها أو يزينها أهلها بالحلي المعتاد في العرس أن يعيرها أقاربها وجيرانها من حليهم ما تتزين به ليلة العرس، بل كن يستعرن الثياب الجميلة أيضًا كما جاء ذلك في حديث عن عائشة رضي الله عنها وفي عصرنا تؤجر بعض المحلات “فساتين” الزفاف وما يكملها من أدوات، للعرائس بأجور عالية، ليعدنها بعد العرس فحبذا لو نظمت بعض الجمعيات الخيرية النسائية إعارة الحلي ونحوه من الفساتين التي تهمل بعد الزفاف ولا تلبس- لمن يحتجن إليه، مع اتخاذ الضمانات اللازمة ويكون ذلك نوعًا من الزكاة).
ولو كانت الزكاة في الحلي فرضًا، كفرض الرقة لما اقتصر النبي -ﷺ- من ذلك على أن يقوله لامرأة يخصها به عند رؤية الحلي عليها دون الناس، ولكان هذا كسائر الصدقات الشائعة المنتشرة عنه في العالم من كتبه وسننه، ولفعلته الأئمة بعده، وقد كان الحلي من فعل الناس في آباد الدهر، فلم نسمع له ذكرًا في شيء من كتب صدقاتهم.
وكذلك حديث عائشة في قولها: “لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته” لا وجه له عندي سوى العارية، لأن القاسم بن محمد بن أخيها -كان ينكر عليها أن تكون أمرت بذلك أحدًا من نسائها أو بنات أخيها ولم تصح زكاة الحلي عندنا عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود، فأما حديث عبد الله بن عمرو في تزكيته حلي بناته، ففي إسناده نحو مما في إسناد الحديث المرفوع.
“والقول الآخر هو عن عائشة وابن عمر وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك ثم من وافقهم من التابعين بعد ومع هذا كله ما تأولنا فيه سنة النبي -ﷺ- المصدقة لمذهبهم عند التدبر والنظر” أ هـ (الأموال ص 446).