عُرِفَ الدُّخَان في البلاد الإسلامية بعد نَقْله من أمريكا وانتشاره في أوروبا في القرن السادس عشر، ولكَثْرة إقبال الناس عليه إذ ذاك اتخذَ كثير من الحُكام إجراءات شديدة ضد المُدَخِّنين، كان من بينها النَّفي وكَسْر الأنف، بل القتل بِصَبِّ الرَّصَاص في أفواه المُدَخِّنين .
ولم يتحدث عنه فقهاء المذاهب الأربعة في العصور الإسلامية الأولى، وبعد أن عرفوه في القرن التاسع الهجري، ألَّف العلماء فيه عدة رسائل بلغت نحو الثلاثين، كانوا فيها ما بين مُحَرِّم وغير مُحَرِّم، كما عنى الأطباء ببيان ضرره على الصحة وقالوا : إن النِّيكُوتين السَّام الموجود في الدُّخان يَتَخَلَّص الجِسْم من 85 % منه بالتفاعلات الكيماوية وبالتَّبَول .
هناك ثلاثة آراء في حُكْم شُرْبه :
الرأي الأول التَّحْرِيم مُطْلَقًا: استدَل أصحاب هذا الرأي بعدة نصوص منها قوله تعالى ( وَيُحَرِّمُ عَلِيْهِمُ الْخَبَائِثَ ) ( الأعراف : 157 ) والدُّخان خَبِيث فيكون حرامًا، وقوْله ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) ( النساء : 29 ) وفيه موْت لبعض النَّاس فيكون مَنْهيًّا عنه، وقوله تعالى ( وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) ( الإسراء : 26 ) ودَفْعُ المالِ فيه تَبْذِير؛ لأنَّه في غير مَوْضِعه فيكون مَنْهيًّا عنه وقول النبي ـ ﷺ ـ ” لا ضَرَرَ ولا ضِرَار ” رواه مالك مُرْسَلًا، ورواه الدَّارَقُطني وجماعة من وجوه مُتصلًا، وهو حديثٌ حَسَنٌ وفي التَّدْخين ضَررٌ، كما يقول المُخْتَصون فلا يُقِرُّه الإسلام وقوله ” من تَحَسَّى سُمًّا فسُمُّه بيده يَتَحَسَّاه في النار ” رواه البخاري ومسلم .
والدُّخان سُمٌّ يدخل النار فيكون حرامًا، وقَوْله ” إنَّ الله نظيفٌ يُحِب النَّظافة ” رواه البَزَّار في مُسْنَده، ورائحةُ الدُّخان غيرُ نَظِيفة، فتكون غيرَ مَحْبُوبَة من الله، وهذا يَعْني الحُرْمَة، وقَوْله ” مَنْ كان يُؤْمِنُ بالله والْيَوْمِ الآخِر فلا يُؤْذ جاره ” رواه البخاري ومسلم، ورائحة الدُّخان فيها إيذاءٌ لمن يُجَاوِر المُدَخِّن فيكون التَّدْخِين مَنْهيًّا عنه، ونهى رسول ـ الله ﷺ ـ عّنْ كل مُسْكِر ومُفْتر، كما رواه أبو داود والتدخين فيه تَفْتِير فيكون مَنْهيًّا عنه، كما نهى عن إضاعة المال، رواه البخاري ومسلم . وفي صَرْف المال في التَّدْخِين إضاعةٌ له؛ لأنَّه غيرُ مُفِيد فيكون مَنْهيًّا عنه .
والرأي الثاني الحِلّ بناءً على أنَّ الأصل في كل مَطْعُوم ومَشْرُوب أن يَبْقَى على حِلِّه حتى يَرِدَ النَّص بتَحْرِيمه، أو يندرج تحت دليل أو قاعدة عامة تُوجِب التَّحْريم، أو يُقَاس على أصل مُحَرَّم لعِلَّةٍ مُشْتَرِكة فيهما، ولم يَرِد في التَّدْخِين شيء من ذلك فيَبْقَى على الحِلّ .
ثم ردَّ أصحابُ هذا الرأي على أدلة الرأي الأول بأنَّها ظَنيَّة الدلالة لا تُوجِب التحريم ؛ لأن الخبائث لم يُتفَق على معناها حتى يكون الدُّخان منها، وكذلك قَتْل النَّفس غير مُتيَقَّن لا لكل الأشخاص ولا في كل الأحوال، والضَّرر ليس كله مُحَرَّمًا، فهو أمرٌ نِسْبي منه الْمَكْرُوه ومنه المُحَرَّم، وكذلك الإيذاء ليس كلُّه مُسْتَوْجِبَاً للتحريم، وإن كان الحد الأدنى فيه الكراهة.
والنظافة كذلك غير مُحَدَّدَة المعنى، بل منها ما هو واجب وما هو مَنْدُوب، وحُبُّ الله للنَّظافة لا يُحَرِّم عَدَمَها، وإنْ دَلَّ على الكراهة، والتَّفْتِير نِسْبي لا يَحْصُل للجميع، والنَّهي عنه قد يكون للتَّحْرِيم وقد يكون للكراهة، وإضاعة المال تتقلب بين الحُرْمَة والكراهة، ويختلف حُكْمُها باختلاف الغِنَى والفَقْر .
وبناءً عليه فإنَّ أدلة القَوْل الأول لا تُوجِب التَّحْرِيم المُطْلَق .
والرأي الثالث وَسَطٌ بين هذين الرَّأيَيْن، فيقول أصْحَابُه بالتَّفْصيل، أي: قد يكون التَّدْخِين حَرَامًا وقد يكون حَلَالًا، مع العِلْم بأنَّ الْمَكْروه في دائرة الحَلال لا الحَرام .
بل قال بعض هؤلاء : إنَّه تَعْتَريه الأحكام الخَمْسَة .
وعلى هذا الرأي يكون التَّدْخِين حَرَامًا إذا كان فيه ضََرٌر صِحي لا يُحْتَمَل، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، ولابد من إخبار الطبيب الثقة بخطورته على الشخص . وكذلك إذا كان فيه إسرافٌ مُحَرَّمٌ بأن كان المُدَخِّن مُحْتَاجًا إلى ثَمَنِه في نَفَقَاتٍ واجبةٍ عليه .
ويكون مَكْرُوهًا إن لم يكنْ فيه ذلك الضَّرر الصِّحي والمَالي ؛ وذلك لأنَّه مَظَنَّة الضَّرر ولرائِحَته الْكَرِيهة التي يَتَأَذَّى بها كثيرٌ من النَّاس، فهو في ذلك ليس أقلَّ من الثَّوْم والبَصل اللَّذَيْن قال عنهما النبي ـ ﷺ ـ” من أَكَلَ ثَوْمًا أو بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أو فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، ولْيَقْعُدْ في بيته ” رواه البخاري ومسلم .
كما أنَّ المَال الَّذي يُنْفَقُ فيه أوْلى أن يُوَجَّه إلى مجالاتٍ مُفِيدة وهى كثيرة، وقد تكون الحاجة فيها مُلحة، وكذلك يُكْرَه التَّدْخِين تَوَرُّعًا ؛ لأنَّ بعض الفقهاء قال بحُرْمَتِه .