لا بأس في التطيب بالعطور التي تحتوى على كحول ، ولا تبطل بها الصلاة مطلقا ، لأن نجاسة الخمر معنوية لا حسية ، كما أن حرمة الخمر في تناولها وشربها .

يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا – رحمه الله- :

النجاسة هي ما تستقذره الطباع السليمة ، وهو قسمان :

-قسم قذارته خفيفة كالبصاق.

-وقسم قذارته شديدة كالبول والغائط وهو النجس.

وقد أمرت شريعتنا الغراء بالنظافة والتطهر من النجاسة ، وأكثر أئمتنا وعلمائنا على أن الصلاة لا تصح من متنجس البدن أو الثوب أو المصلَّى ، وقد اختلفوا في تعداد النجاسات التي يجب اجتنابها في الصلاة ؛ لأنه لم يرد نص من الشارع بتحديدها بالعدد للذين كانوا يدخلون في الإسلام ويتعلمون العبادة الواجبة ، ثم ينقلبون إلى باديتهم التي ليس فيها علماء كحديث الأعرابي المشهور ، ولم يكن في زمن التشريع ولا في أزمنة الأئمة المجتهدين شيء يسمى الكحول فينص فيه شيء ؛ لأن علم الكيمياء لم يكن له وجود .

ونسمع عن كثير من الناس القول بنجاسة الكحول ونجاسة كل ما فيه شيء منه ، ويحتجون على هذا بأنه هو سبب الإسكار في الخمر وهي نجسة عند أكثر أئمة المسلمين وعلمائهم ، وهذا الاستنباط والاجتهاد معارض بوجوه :

أولا : أنه لا دليل على نجاسة الخمر نفسها في اللغة ، ولا في الكتاب والسنة وقوله تعالى : [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ]( المائدة : 90 ) لا يدل على نجاستها ؛ لأن الرجس مع كونه ليس نصًّا في النجاسة محمول عليها وعلى الميسر والأنصاب والأزلام ، وهذه الأشياء غير نجسة بالإجماع ، هذا ما يقال لمن يسلك في القول بالنجاسة مسلك الاجتهاد والاستنباط .

ثانيا : سلَّمنا أن الخمر نجسة تقليدًا للقائلين بذلك من غير أن نعرف لهم دليلاً مقنعًا ؛ لكننا لا نسلِّم أن العلة في نجاستها وجود هذه المادة الكيماوية فيها ؛ لأن هذه المادة ليست قذرة تعافها النفوس السليمة ، فتكون هي الجزء النجس ، بل هي من المطهرات التي تزيل ما لا يزيله الماء مع الصابون من الأقذار والنجاسات ؛ ولأن هذه المادة لم تكن معروفة للمجتهدين الذين قالوا بنجاسة الخمر ؛ ولأن أحكام دين الفطرة مبنية على الأمور الظاهرة لجميع أصناف الناس الذين دعوا إليه لا على دقائق العلوم الطبيعية المختصة بصنف من الناس.

ثالثا : إذا كانت رجسية الخمرة ونجاستها معنوية ، كما هو الظاهر على حد [ إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ]( التوبة : 28 ) لتأكيد اجتنابها والبعد عنها ، فلا تعلق لهذه المسألة بالصلاة إلا من حيث اجتناب قرب الصلاة للسكران ، وإن كانت نجاستها حسية كما هو المعروف عن الفقهاء القائلين بذلك بمعنى أنه يجب تطهير الثوب والبدن إذا أصابه شيء منها فالأمر لا شك تعبدي ، والتعبدي لا يبحث في علته ولا يقاس عليه وإنما يمتثل فيه ظاهر النص .

رابعا : إن الكحول يوجد في غير الخمرة من الأشربة والأدوية والأعطار القديمة غير الإفرنجية وغير ذلك ، فإذا كان قولهم إن كل ما فيه مادة الكحول نجس فعلينا أن نحكِّم الكيماويين في معرفة نوع النجاسة المحرَّمة شرعًا ، ونأخذ بأقوالهم وإن كان لا يسلم لنا شيء من النجاسة .

خامسا : إذا قيل : إن الخمر نجسة العين ، فاللازم في اتباعهم اجتناب هذا الشراب المسكر الذي يسمى خمرًا والتطهر منه ، وليس علينا أن نحلل بسائطه ونقول إن كل عنصر منه يوجد في شيء آخر نحكم على ذلك الشيء بحكمه ؛ لأن جزء نجس العين نجس ؛ فإن هذه فلسفة لا تليق بالحنيفية السمحة ؛ ولأن الأحكام إنما هي على هذه المركبات ، وهذا العطر ليس خمرًا .

سادسا : إن النجاسات المجمع عليها كبول الإنسان وغائطه مركبة من عناصر كيماوية توجد في كل طعام وشراب ؛ وإنما القذارة من التركيب المخصوص على النسب المخصوصة .

سابعا : المعروف في محاسن أصول الشريعة أن الأحكام تدور مع العلل وجودًا وعدمًا ، فإذا حُرِّمت الأشربة المسكرة التي كانت في زمن التشريع وسميت خمرًا ، فلا شك أن الأشربة التي اختُرعت بعد ذلك كالكنياك لها حكمها ، وجاء النص بحِلِّ الخل الذي كان خمرًا ، وحكم الأئمة القائلون بنجاسة الخمر بطهارتها إذا تخللت ؛ لأن المفسدة التي كانت في هذا المائع واقتضت اجتنابه قد زالت ، فأي معنى للتضييق على المسلمين بمنعهم من الانتفاع به ، وكذلك جلود الميتة إذا دُبِغَت تطهر للأمن من نتنها وفسادها .

وانقلاب العين ودخول النار من المطهرات في مذهب الحنفية فإذا طُبخ الصابون بالزيت النجس يكون طاهرًا ، فكيف لا يكون العطر الذي فيه الكحول طاهرًا .

ثامنا : أن الطيب ضد القذر ، والنجاسة هي القذارة الشديدة ، ومن البلاء أن نغلو في الدين ونتعمق بالتفلسف فيه ؛ حتى نعطي الضد حكم ضده ، بل نجعله منه فهذه الأعطار والطيوب الإفرنجية ليست خمرًا ولا قذرًا ، ولا نعرف أيضًا عن أئمة الدين قولاً بتحريم شيء لعلل فلسفية وتحليلات كيماوية .

تاسعا : قد ثبت في الكيمياء أن هذا الكحول يوجد في غير هذه الأعطار من الأكل والشرب والدواء ، لا سيما المتخمر منها كالعجين وغيره كما تقدم ، فإذا حكمنا بنجاسة كل ذلك نوقع الأمة في أشد الحرج ، والحرج كله منفي بالنص ولا مرجح للقول بنجاسة هذه الأعطار دون غيرها ، هذا وإننا نرى كثيرًا من أهل العلم يتعطرون بهذه الطيوب بعلة أنها مجهولة الأصل ، وأن قول الكيماويين غير معتبر شرعًا ، وعندنا أن قول الكيماويين يقيني ؛ لأنه مبني على المشاهدة ومتواتر عنهم بالنسبة إلى غيرهم .