هذا الحديث حديث النهي عن بيع الإنسان ما لا يملك صحيح ثابت ، وأما السلم والاستصناع فلا يدخلان في النهي ؛ لأن البيع فيهما يقع على شيء موصوف في الذمة ، وليس على شيء موجود بعينه ، والمنهي عنه بيع المعين إذا لم يكن في ملك البائع ، وبيع المرابحة لا يدخل في النهي ؛ لأن البيع لا يقع إلا بعد التملك ، وما يحدث قبل ذلك فهو من المواعدة.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
الواجب علينا هنا أن نلقي الضوء على نقطتين اثنتين في حديث النهي عن بيع الإنسان ما لا يملك :
الأولى : على النصوص الواردة في النهي عن بيع ما لا يملك الإنسان أو ما ليس عنده .
الثانية : المراد من هذه النصوص ، و تحديد معنى بيع ما ليس عند البائع أو ما لا يملكه ، أو بيع المعدوم .
حديث “لا تبع ما ليس عندك” :
أما النقطة الأولى ، فقد استدلوا لها بحديث حكيم ابن حزام انظر : المغني لابن قدامة ، جـ 4 ص 185 ، و المجموع للنووي جـ 9 ص 247 و الهداية و شروحها .
قال : قلت يا رسول الله ، يأتيني الرجل ، فيسألني عن البيع (أي البيع ) ليس عندي ما أبيعه منه ، ثم أبتاعه من السوق ! و في لفظ : أبتاع له من السوق ، ثم أبيعه ؟ فقال : لا تبع ما ليس عندك ” رواه الخمسة يراد بالخمسة : أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه ، و هو اصطلاح صاحب “منتقى الأخبار ” . و روى عمر ابن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا ً: ” لا يحل سلف و بيع ، و لا شرطان في بيع ، و لا ربح ما لم يضمن و لا بيع ما ليس عندك ” رواه أصحاب السنن و صححه الترمذي .
و حديث حكيم ابن حزام هو العمدة هنا ، فإذا نظرنا في سنده فإذا نظرنا في سنده وجدنا لأنه قد رواه أحمد و أصحاب السنن و ابن حبان في صحيحه من حديث يوسف ابن ماهك عن حكيم ابن خزام مطولاً و مختصراً ، و لكن بعض الرواة الثقاة رووه فأدخلوا بين يوسف و حكيم : عبد الله بن عصمة .
و قد قال عنه الذهبي في “الميزان ” : لا يعرف .
و قال ابن حجر في “تهذيب التهذيب ” : ذكره ابن حبان في الثقات ، و روى له النسائي حديثاً واحداً . و قال ابن حزم في البيوع من “المحلى” متروك ، و تلقى ذلك عبد الحق فقال : ضعيف جداً . و قال القطان : بل هو مجهول الحال . و قال شيخنا : لا أعلم أحداً من أئمة الجرح و التعديل تكلم فيه بل ذكره ابن حبان في الثقات . أ . هـ .
و دافع عنه الحافظ في التلخيص راجع ميزان الاعتدال للذهبي : ترجمة رقم (4449) و تهذيب التهذيب لابن حجر جـ 5 ص 322 ، و تلخيص الحبير له حـ 2 ص 5 .
و ذكر في “التقريب ” أنه “مقبول” أي حيث يتابع ، و إلا فلين الحديث كما ذكر في المقدمة .
و لعل من أجل هذا لم يخرج أحد من الشيخين حديث حكيم في صحيحه لا موصولاً و لا معلقاً. و ذكر البخاري في البيوع ” باب بيع الطعام قبل أن يقبض ، و بيع ما ليس عندك ” حديثاً . قال الحافظ : و كأنه لم يثبت على شرطه ، فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض ، و وجه الاستدلال منه بطريق الأولى فتح الباري جـ 5 ص 252 ط الحلبي . .
و لكن البيع قبل القبض خاص بالطعام ، كما صحت به الأحاديث ، فلا يشمل كل ما يباع .
و أما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، فالخلاف في سنده معروف من قديم انظر ترجمته في “الميزان”و تهذيب التهذيب و قال الحافظ في الفتح عن عمرو : ترجمته قوية على المختار ، ما لم تعارض فتح الباري .
ذكرت هذا لنتبين منزلة النصوص التي يستدل بها هنا ، فبعض من يوردها يوهم كأنها نصوص قطعية الثبوت . و إن كنت أميل إلى أن الحديثين يشد أحدهما أزر الآخر ، فإذا لم يبلغا درجة الصحة كما ذهب إلى ذلك الترمذي و ابن حبان فلن ينزلا عن درجة الحسن إن شاء الله .
بيان معنى ((ما ليس عندك )) :
بقي علينا بيان المراد من الحديث “لا تبع ما ليس عندك” قال الإمام الخطابي في معالم السنن : قوله ” لا تبع ما ليس عندك ” يريد به بيع العين دون بيع الصفقة . ألا ترى أنه أجاز بيع السلعة إلى الآجال . و هو بيع ما ليس عند البائع في الحال . و إنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر . و ذلك مثل أن يبيع عبده الآبق أو جمله الشارد .
و يدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه ، مثل أن يشتري سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها .
و يدخل في ذلك بيع الرجل مال غيره موقوفاً على إجازة المالك ؛ لأنه بيع ما ليس عنده ، و لا في ملكه ، و هو غرر ؛ لأنه لا يدري هل يجيزه صاحبه أم لا ؟ معالم السنن جـ5 ص 143 ا . هـ .
و الأمران الأخيران اللذان ذكرهما الخطابي مختلف فيهما . فمن الفقهاء من أجاز بيع كل ما عدا الطعام قبل قبضه انظر المغني ج4 ص 97 و ما بعدها . و المجموع جـ9 ص 270 – 272 . و بداية المجتهد جـ 2 ص 108 و ما بعدها . . كما أن منهم من أجاز بيع الفضول و تصرفاته إذا وافق عليه المالك . و هو مذهب مالك و أبي حنيفة : انظر بداية المجتهد جـ2 ص129 ، 130 ، و الاختيار جـ2 ص 37 ، و فيه يقول : اعلم أن تصرفات الفضولي منعقدة موقوفة على إجازة المالك ، لصدورها من الأهل – و هو الحر العاقل البالغ – مضافاً إلى المحل ، لأن الكلام فيه ، ولا ضرر فيه على المالك ، لأنه غير ملزم له ، وتحتمل المنفعة فينعقد ، تصحيحاً لتصرف العاقد العاقل ، و تحصيلاً للمنفعة المحتملة ، و استدل بحديث شراء حكيم بن حزام للأضحية و بيعها ، و ربحه فيها . . إلخ ، كما استدل ابن رشد بحديث عروة البارقي ، و قد مال البخاري في صحيحه إلى إجازة بيع الفضولي ، و عقد لذلك (باب إذا اشترى شيئاً لغيره بغير إذنه فرضي ) و استدل بحديث أصحاب الغار المشهور . انظر : فتح البارى جـ4 ص313 .
و نقل الشوكاني عن البغوي قوله هنا : النهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان التي لا يملكها . أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروط . فلو باع شيئاً موصوفاً في وقت عام الوجود عند المحل المشروط في البيع جاز . و إن لم يكن المبيع موجوداً في ملكه حالة العقد كالسلم .
قال الشوكاني :
و ظاهر النهي تحريم (بيع) ما لم يكن في ملك الإنسان و لا داخلاً تحت مقدرته . و قد استثنى من ذلك السلم ، فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم . و كذلك إذا كان المبيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض نيل الأوطار جـ5 ص 253 .
و نقل الحافظ في ” الفتح ” و العيني في ” عمدة القاري ” عن الإمام ابن المنذر في تفسير ” بيع ما ليس عندك ” أنه يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يقول : أبيعك عبداً أو داراً معينة ، و هي غائبة وقت البيع ، فيشبه بيع الغرر ، لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها صاحبها .
ثانيهما : أن يقول : أبيعك هذه الدار بكذا ، على أن أشيريها لك من صاحبها ، أو على أن يسلمها لك صاحبها . قال : وهذا مفسوخ على كل حال ، لأنه غرر ، إذ قد يجوز ألا يقدر على شرائها أو لا يسلمه إليه مالكها . قال : و هذا أصح القولين عندي .
قال الحافظ : و قصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني انظر : فتح الباري جـ5 ص252 و عمدة القارى جـ11 ص254 .
و قال ابن القيم :
و أما قوله – ﷺ : ” لا تبع ما ليس عندك ” فمطابق لنهيه عن بيع الغرر؛ لأنه إذا باع ما ليس عنده ، فليس هو على ثقة من حصوله ، بل قد يحصل له و قد لا يحصل، فيكون غرراً ، كبيع الآبق و الشارد و الطير في الهواء ، و ما تحمل ناقته ونحوه .
قال : و قد ظن طائفة أن السلم مخصوص من عموم هذا الحديث ، فإنه بيع ما ليس عنده . و ليس كما ظنوه ؛ فإن الحديث إنما تناول بيع الأعيان ، و إما السلم فعقد على ما في الذمة… و ما في الذمة مضمون مستفر فيها . و بيع ما ليس عنده إنما نهي عنه ؛ لكونه غير مضمون عليه ، و لا ثابت في ذمته ، و لا في يده ، فالمبيع لا بد أن يكون ثابتاً في ذمة المشتري أو في يده . و بيع ما ليس عنده ليس بواحد منهما . فالحديث باق على عمومه تهذيب سنن أبي داود جـ5 ص157 ، 158 .
هذا كلام ابن القيم . . ولشيخه شيخ الاسلام ابن تيمية في هذا المقام كلام نفيس في بيان معنى بيع المعدوم ، أو بيع ما ليس عند البائع الذي اعتبره بعض الفقهاء أصلاً ثابتاً ، و استثنوا منه ” بيع السلم ” و جعلوا الترخيص فيه على خلاف القياس ، لحاجة الناس . و كلامه هنا يدل على عمق فهمه لروح الشريعة و فقهه لمقاصدها ، اقتداء بالصحابه الذين كانوا أفقه الناس لهذا الدين و أعرفهم بسماحته .
يقول في رسالته عن ” القياس ” رداً على الذين يقولون : إن السلم جاء على خلاف القياس لأنه بيع معدوم ، أو بيع ما ليس عند البائع ، و رووا عن النبي ﷺ أنه قال: ” لا تبع ما ليس عندك . . . و أرخص في السلم ” قال : و هذا لم يرو في الحديث ، و إنما هو من كلام بعض الفقهاء .
و نهي النبى – صلى الله عليه و سلم – حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده : إما أن يراد به بيع عين معينة ( بيت فلان أو سيارته مثلاً ) فيكون قد باع مال الغير قبل أن يشتريه . و فيه نظر .
و إما أن يراد به بيع ما لا يقدر على تسليمه و إن كان في الذمة ، و هذا أشبه . فيكون قد ضمن له شيئاً لا يدري : هل يحصل أو لا يحصل مجموع فتاوى شيخ الإسلام جـ20 ص 529 ) .