ليس مطلوبا من المسلم أن يخرج حب الدنيا كلية من قلبه ويتركها وراء ظهره بل عليه أن يسخرها ويستعملها لخدمة دينه ودعوته ذلك لأن حب الدنيا مطبوع في قلوب الناس جميعا.

أما الذين يعبدون الدنيا ولا يفكرون إلا فيها ويسخرونها لخدمة شهواتهم وملذاتهم هؤلاء هم المرضى الذين يحتاجون إلى علاج وإليهم نسوق هذه النصوص التي تحذر من الاغترار بالدنيا والحرص عليها:

ولقد حفل القرآن الكريم بالكثير من الآيات التي تعيب الدنيا، وتزهد فيها:

-قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ).

-وقال -جل شأنه-: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

-وقال -عز وجل-:(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَة…).

-وقال تعالى: (وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ).

بل لقد جعل الله –سبحانه- ذلك مقصود الأنبياء -عليهم السلام- ولم يُبعثوا إلا له.
-فقد روي عن النبي -- أنه مر على شاة ميتة فقال: “أترون هذه الشاة هينة على أهلها”؟، قالوا: من هوانها ألقوها، قال: “والذي نفسي بيده، لَلدنيا أهونُ على الله من هذه الشاة على أهلها، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء.

-وقال -عليه الصلاة والسلام-: “ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمَّ، فلينظر بمَ ترجع”.
-وفي حديث آخر قال : “الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر”.
-وكان يقول --: “ما لي والدنيا؟ ما أنا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم تركها ومضى”.
-وقال : “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”.

-وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: “يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء، أنيابها بادية، مشوَّه خَلْقها، فتُشرف على الخلق، فيقال: هل تعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها، وبها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تُقذف في جهنم، فتُنادي: يا ربِّ، أتباعي وأشياعي. فيقول: أَلْحقوا بها أتباعَها وأشياعَها”.

-ورحم الذي قال: “مثلُ طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا حتى يقتله”.
-وقال الحسن: “رحم الله أقوامًا كانت الدنيا عندهم وديعة، فأدوها إلى من ائتمنهم عليها، ثم راحوا خفافًا”.
-وقال مالك بن دينار: “بقدر ما تحزن للدنيا يخرج همُّ الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج همَّ الدنيا من قلبك”.

-وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا كتابًا طويلاً فيه: “أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام، وإنما أُنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تُذل من أعزها وتفقر من جمعها، كالسم يأكله من لايعرفه وهو حتفه، فاحذر هذه الدار الغرَّارة الخيالة الخداعة، وكن أسرَّ ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن، وصفوها مشوب بالكدر، فلو كان الخلاق لم يخبر عنها خبرًا، ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فيكف وقد جاء من الله -عز وجل- عنها زاجر، وفيها واعظ، فما لها عند الله –سبحانه- قدْرٌ ولا وزن، ما نظر إليها منذ خلقها”.

إن لله عبــادًا فُطَـنا طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
خبروا الدنيا فلما علموا أنها ليسـت لحي سـكنا
جعلوها لُجّة واتخـذوا صالح الأعمال فيها سفنا
فهل دنيا كهذه.. تستحق منا كل هذا العناء والسعي؟!

كما حذّرنا ربنا كثيرًا من طول الأمل، ونبَّهَنا إلى أن الموت يأتي بغتة، قال تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ* أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

وحذّرنا كذلك من أن تلهينا أموالنا وأولادنا عن ذكر الله، قال -جل شأنه-: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ* وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ* وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)،

وقد ورد الشرع بالحث على قصر الأمل وعلى العمل والمبادرة إليه:

-فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال --: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”، وقال -- لرجل وهو يعظه: “اغتنم خمسًا قبل خمس؛ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك” وقال عمر –رضي الله عنه-: “التؤدة في كل شيء خير، إلا ما كان من أمر الآخرة” وكان الحسن –رضي الله عنه- يقول: “عجبًا لقوم أُمروا بالزاد، ونودي فيهم بالرحيل، وحبس أولهم على آخرهم، وهم قعود يلعبون.

-وقد روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -- بمنكبي فقال: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”، وكان ابن عمر يقول: “إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.

-وعن أبي زكريا التيمي قال: “بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام إذ أُتي بحجر منقوش، فطلب من يقرؤه، فإذا فيه: ابن آدم، لو رأيت قرب ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك، ولقصرت من حرصك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، فبان منك الولد والنسب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة”.

-وقال ابن قدامة: “الإنسان مشغول بالأمانيِّ الباطلة، فيمنِّي نفسه أبدًا بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، وما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن وأصدقاء وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفًا على هذا الفكر، فيلهو عن ذكر الموت، ولا يقدر قربه، فإن خطر له الموت في بعض الأحوال والحاجة إلى الاستعداد له سوّف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر قال: “إلى أن يصير شيخًا، وإن صار شيخًا قال: إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار وعمارة هذه الضيعة، أو يرجع من هذه السَّفرة، فلا يزال يسوّف ويؤخِّر، ولا يحرص في إتمام شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال، وهكذا على التدريج يؤخِّر يومًا بعد يوم، ويشتغل بشغل بعد شغل، إلى أن تختطفه المنيّة في وقت لا يحتسبه فتطول عند ذلك حسرته.

-وكان حامد القيصري يقول: كلُّنا قد أيقن الموت، وما نرى له مستعدًا!، وكلنا قد أيقن بالجنة، وما نرى لها عاملاً!، وكلنا قد أيقن بالنار، وما نرى لها خائفًا!، فعلام تفرحون؟! وما عسيتم تنتظرون؟!.. الموت؟! فهو أول وارد عليكم من أمر الله بخير أو بشرّ، فيا إخوتاه، سيروا إلى ربكم سيرًا جميلاً.
ورحم الله أبا العتاهية، ما أفقهه حين قال:
إنْ كنتَ تنوحُ نُح على نفسك يا مسكين
ما عَمِّر نوح لستَ بالباقي ولو عُمِّرْتَ
فماذا عسانا ننتظر؟ الموت: أول وارد علينا؟! فلنسر إلى ربنا سيرًا جميلاً.