من المعلوم أنَّ الإسلام أمر بالعلم وكرَّم أهله ، بنصوص كثيرة في القرآن والسُّنة ، وقد وضَّح ذلك ابن القيم في كتابه “مِفتاح دار السعادة” ، وتحدَّث العلماء عن فضل نشر العلم وتعليمه والأسلوب الذي يناسب ذلك .
ومنها مُخاطبة الناس على قدْرِ عقولهم ، واختيار الذين يتلقون العلم حتى يصونوه بحُسن التَّلقي وبالعمل به وبنشره.
ومما جاء في ذلك حديث : “نحن معاشرَ الأنبياء أُمِرْنَا أن نكَلِّم الناس على قَدْرِ عقولهم” رواه أبو الحسن التميمي في كتاب العقل له بإسناده عن ابن عباس عن النبي ـ ﷺ ـ وخرَّجه الحافظ الضياء عن ابن عمر عن النبي ـ ﷺ ـ وقال البخاري قال علي ـ رضي الله عنه: حدِّثوا الناس بما يعرفون ، ودَعُوا ما ينكرون ، أَتُحِبُّون أنْ يُكَذَّبَ الله رسوله ؟
ونقل السفاريني في كتابه “غذاء الألباب” عن كتاب الآداب الكبرى أن شُعبة قال: أتاني الأعْمَش وأنا أحدِّث قومًا ، فقال: وَيْحَكَ ، تُعَلِّقُ اللؤلؤَ في أعْنَاق الخنازير ؟ قال مهنَّا للإمام أحمد ـ رضي الله عنه: “ما معنى قوله ؟ قال: لا ينبغي أن يحدِّث من لا يستأهل .
وقال عيسى ابن مريم ـ عليه السلام : للحكمة أهل، فإن وضعتها في غير أهلها ضيعت ، وإن منعتها من أهلها ضيعت .
وقال ـ عليه السلام: لا تطرح اللؤلؤ إلى الخنزير، فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئًا ، ولا تعط الحكمة من لا يريدها، فإن الحكمة خير من اللؤلؤ ، ومن لا يريدها شر من الخنزير .
وقال مالك: ذُلٌّ وإهانة للعلم أن تتكلَّم به عند من يُضَيِّعُه.
ومن كلام الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه:
أأنثر درًّا بين سراحة النَّعم *** أأنظم منثورًا لراعية الغَنم
إلى أن قال:
فمن مَنَحَ الجُهَّال علمًا أضاعه *** ومن منع المستوجبين فقد ظلم
فالعلم كالسَّيف إن أعطيته لتقي قاتل به في سبيل الله، وإن ألقيته لشقي قطع به الطريق وأضل عباد الله، وهذا مستثنى من عموم قوله ـ ﷺ ـ “من سُئِلَ عن علم فكتمه أَلْجَمَه الله يوم القيامة بلِجَامٍ مِنْ نَارٍ” رواه أصحاب السنن إلا النسائي، ورواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي .
وفي الصحيحين أنَّ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إن المَوْسِم يجمع الرِّعاع والغوغاء، فأمْهِلْ حتى تقدم المدينة فتخلُص بأهل الفقه ، فقدِمنا المدينة ، فقبل عمر مشورة ابن عباس فلم يتكلَّم بذلك حتى قدِم المدينة . قال الإمام ابن الجوزي: وفي هذا تنبيه على ألا يودع العلم عند غير أهله، ولا يحدث لقليل الفهم ما لا يحتمله فهمه ، والرِّعاع السَّفلة ، والغوغاء نحو ذلك، وأصل الغوغاء صغار الجراد .
وسأل ابن المبارك سُفيان الثوري بمكة عن الغوغاء فقال: الذين يكتبون الأحاديث يريدون أن يتأكلوا أموالَ الناس، وسأله عن السَّفلة فقال: الظَّلمة.
وجاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي مثل هذا الكلام ، وذكر قوله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) (سورة النساء: 5)، وقال: إن حفظ العلم ممن يُفسده ويَضره أوْلى من حِفظ المال، وليس الظُّلم في إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم في منع المُسْتَحِق ، وذكر الشِّعر السابق المنسوب إلى الإمام الشافعي .
وذكر فيه كذلك قول عِكْرِمَة : إن لهذا العلم ثمنًا، قيل: وما هو؟ قال: أن تضعه فيمن يُحْسِن حَمْلَه ولا يضيعه.
وجاء في كتاب أدب والدنيا والدين للماوردي ، أنه رُويَ عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال : “لا تمنعوا العِلْمَ أهله فتظلموا ، ولا تضعوه في غير أهله فتأثموا “، ولم يُخَرَّج هذا الحديث، كما جاء فيه حديث عن النبي ـ ﷺ ـ “واضعُ العلمِ في غير أهله كمقلِّد الخنازير اللؤلؤ والجوهر والذهب”، ولم يخَرِّجه أيضًا.
ثم جاءت أخبار تحذِّر من تعلَّم العلم لغير وجه الله منها: ” لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السُّفهاء ولتصرفوا به وجوهَ الناس إليكم، فمن فعل ذلك فهو في النار”، وهو حديث رواه ابن ماجه بسند صحيح، ولا شك أن السفلة هم الذين يتعلمون من أجل ذلك .
من هذا نرى أن الحديث المسؤول عنه لم يرد بنصه بطريق صحيح، لكن معناه ورد في أحاديث وأقوال أخرى، وهو معنى صحيح.
هذا، وقد جاء في تفسير القرطبي : أن السفلة في تعيينهم أقوال ، فقيل هم الذين يتفلَّسون ويأتون أبواب القضاء والسلاطين يطلبون الشهادات ، مأخوذ من التفليس وهو استقبال الولاة عند قدومهم بأصناف اللهو . وقيل: هم الذين يأكلون الدنيا بدينهم، وقيل: هم الذين يزاولون أعمالاً حقيرة كالحياكة والحجامة والدباغة والكَنس، وبخاصة إذا كانوا من غير العرب.
لكن للعُرف رأي في إطلاق هذا الاسم على بعض الناس.