مما لا شك فيه أنه قد ثبتت عدة أحاديث تدل بوضوح أن بعض الأحاديث قد كتبت في عصر النبي ﷺ بعلمه وإذنه، بل إن بعض من كان يكتب من الصحابة لما هم بالتوقف عن الكتابة أمره النبي ﷺ بالكتابة.
وفي المقابل ورد عدد من الأحاديث تنهى عن كتابة السنة، وأرجى هذه الأحاديث حديث أبي سعيد الذي رواه مسلم، وهذا الحديث بين غير واحد من أهل العلم أنه ليس منسوبا إلى رسول الله ﷺ، ولكنه من قول أبي سعيد نفسه.
وعلى فرض صحة بعض الأحاديث الناهية عن الكتابة فإنها أبدا لن تنفي الأحاديث الأقوى منها والأوضح والأظهر في الإذن بالكتابة.
ولعله ﷺ أذن في الكتابة عنه لمن خشي عليه النسيان، ونهى عن الكتابة عنه لمن وثق بحفظه مخافة الاتكال على الكتابة، أو نهى عن كتابته حين خاف عليهم اختلاط ذلك بصحف القرآن وأذن في كتابته حين أُمِنَ من ذلك، ثم زال الاختلاف.
وهذه طائفة من هذه الأحاديث التي تفيد إذن النبي ﷺ لأصحابه أن يكتبوا عنه السنة:-
1-حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي – ﷺ- لما فتح مكة قام وخطب في الناس، فقام رجل فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله – ﷺ-: اكتبوا له، رواه البخاري ومسلم وغيرهما، أخرجه البخاري في العلم باب كتابة العلم ، ومسلم في الحج باب تحريم مكة .
2-قول أبي هريرة – رضي الله عنه-: “ما من أصحاب النبي – ﷺ- أحد أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب” رواه البخاري في العلم باب كتابة العلم.
3-وعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله – ﷺ- أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله – ﷺ- ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله – ﷺ- فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: “اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق” أخرجه أبو داود ، وابن أبي شيبة،والدارمي،وأحمد،) والحاكم، وإسناده صحيح.
4- وقد ثبت عن رسول الله – ﷺ- أنه كتب كتباً متعددة إلى أمرائه على الأقاليم ببعض الأحكام الشرعية، وهي من السنة قطعاً، كما إن في بعضها تفصيلاً طويلاً كما في كتاب عمرو بن حزم وهو كتاب مشهور، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.
وهذا ما يدل على المنع:-
حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه- الذي رواه مسلم عن رسول الله – ﷺ- قال: “لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه…الحديث” أخرجه مسلم في الزهد والرقائق،باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم ، وهذا هو أصح حديث في النهي عن كتابة الحديث، وهناك أحاديث أخرى لكنها ضعيفة لا تصح، ولا تثبت عن النبي – ﷺ-.
ويقول عن هذا الحديث الدكتور سليمان بن عبد الله القصير عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية:-
حديث أبي سعيد –رضي الله عنه- هذا وإن كان رواه مسلم فقد رجَّح عدد من أئمة الحديث كالإمام البخاري وغيره أن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي – ﷺ- وأن الصحيح فيه أنه من قول أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه-، وعلى هذا فلا حجة فيه؛ لأن قول الصحابي ليس بحجَّة كقول رسول الله – ﷺ خصوصاً إذا خالف قول الرسول – ﷺ- وقد عارض قول أبي سعيد هذا الأحاديث التي قدمنا ذكرها وهي صحيحة لا مطعن فيها. والنهي الوارد في حديث أبي سعيد لو صح مرفوعاً إلى النبي –ﷺ-، فقد بين العلماء المراد منه والجواب عليه، فمما قالوا في ذلك:
أن هذا النهي عن كتابة الحديث إنما كان في أول الإسلام؛ مخافة أن يختلط الحديث بالقرآن، فلما كثر عدد حفاظ القرآن، وميزوا القرآن من غيره نسخ هذا النهي، وأمروا بالكتابة.
وقال بعض العلماء: يمكن أن يكون النهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لأنهم كانوا يسمعون تفسير الآيات فربما كتبوه معه، فنهوا عن ذلك خوف الاشتباه، ويؤيد هذا أنه قال – ﷺ-: “لا تكتبوا شيئاً غير القرآن”، ولم يقل لا تكتبوا حديثي فقط.
ومع هذا فقد ثبت لدينا أن عبدالله بن عمرو بن العاص كان يكتب الحديث عن النبي- ﷺ- بأمره عليه الصلاة والسلام وتوجيهه، ولما توقَّف عن الكتابة أعاد عليه الأمر مرة أخرى.