لم يرد نص شرعي في تحديد أرباح التجار،بل ترك النبي ﷺ هذا لظروف الناس ،على أن تخلو صور البيع من الغش والتدليس وغير ذلك مما حرمه الشارع في البيوع.
يقول الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر:
تصل أرباح بعض التجار من بيع سِلَعِهم مثل الثمن الذي ابتاعوها به، وقد تصل إلى أكثر من ذلك، ويثور التساؤل عن مدى حِلِّ هذا الربح.
وفي البداية نقرر أنه لم يَرِدْ في نصوص الشرع ما يُقَيِّد ربح التاجر من بيع سلعته بحد معين، لا يجوز له التجاوز عنه، بل تَرَك للمُتَبايِعَيْنِ تحديدَ الثمن والربح وَفقًا لظروف السوق، إذا لم يَشُبْ هذا البيع غش أو تدليس أو تغرير أو كذب أو نحوها مما نهى عنه الشارع، ولم يستخدم البائع وسيلة غير مشروعة يكون لها أثر في رفع سعر سلعته كالنَّجَش “وهو المُزايَدة” على السلعة ممَّن لا يرغب في شرائها بُغْيةَ رفع السعر على مَن يريد الشراء “أو تَلَقِّي الركبان” بأن يتلقَّى أحد التجار بعض الجالبين للسلع، فيأخذ منهم ما معهم من تجارة قبل أن يدخلوا سوق المدينة، وقبل أن يتمكَّنوا من معرفة أسعار سِلَعهم فيه، أو “بيع الحاضر للبادي” بأن يتولى تاجر المدينة بيع المُنتَج الذي أتى به البدوي أو الريفي في سوق المدينة بالسعر الذي يراه، حتى يضمن عدم مُنافَسة أحد له فيه، أو “الاحتكار” الذي هو حَبْس السلعة التي تَمَس حاجة الناس إليها عند البيع لتَقِلَّ بين الناس، وتشتد حاجتهم إليها فيغلو سعرها، أو الدعاية المُضَلِّلة المُبالَغ فيها عن قيمة السلعة المَبيعة، أو نحو ذلك مما قد يرفع من قيمة السلعة في نظر المشتري.
وقد دعا رسول الله ـ ﷺ ـ إلى ترك الناس أحرارًا في تجاراتهم يحدِّدون من الأسعار لسلعهم ما تمليه ظروف السوق، وما يقتضيه أسلوب العَرْض والطلب بها، قائلاً: “دَعُوا الناسَ يرزق الله بعضَهم من بعض” ورُوِيَ عنه ـ ﷺ ـ أنه قال: “دعوا الناس يصيب بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحْه” ولهذا فإن رسول الله ـ ﷺ ـ لم يضع حدًّا أعلى لسعر السلع حينما طُلِب منه ذلك، واعتبر وضع هذا الحد ظلمًا للتاجر الذي قد تَزِيد قيمة سلعته عن هذا الحد الذي وضعه، إذ رُوِيَ عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: “غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله ـ ﷺ ـ فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسَعِّر لنا، فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: إن الله هو المُسَعِّر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمَظْلَمة في دم ولا مال”.
ولم يُنْكِر رسول الله ـ ﷺ ـ على عروة بن الجعد البارقي وحكيم بن حزام أن رَبِحا في بيعهما مثل الثمن الذي اشتريا به المبيع، بل أقرَّهما على أنهما ربحا فيما باعا 100% من الثمن الذي بذلاه عند ابتياع هذه السلع، إذ رُوِيَ أن رسول الله ـ صلى الله عليه سلم ـ أعطى عروة البارقي دينارًا ليشتريَ به شاة يُضَحِّي بها، فاشترى عروة به شاتين، ثم باع إحداهما بدينار، وجاء إلى رسول الله ـ ﷺ ـ بشاة ودينار، فقال: يا رسول الله هذه شاتكم وهذا ديناركم، فقال رسول الله ﷺ: اللهم بارِكْ له في صفقة يمينه، قال عروة: فلقد رأيتَني اقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل أهلي” ورُوِيَ أن رسول الله ﷺ: “دفع دينارًا إلى حكيم بن حزام ليشتريَ له به أضحية، فاشترى شاة، ثم باعها بدينارين، ثم اشترى شاة بدينار، وجاء بالشاة والدينار إلى النبي ـ ﷺ ـ فأخبره بذلك، فقال النبي ﷺ: بارك الله لك في صفقتك، فأما الشاة فضَحِّ بها، وأما الدينار فتصدقْ به” فعروة البارقي باع الشاة بدينار، وكان قد اشتراها بنصف دينار، وحكيم بن حزام باع الشاة بدينارين، وكان قد اشتراها بدينار، فربح كل منهما في الشاة التي باعها مثل الثمن الذي اشتراها به، ولم يُنْكِر عليهما رسول الله ـ ﷺ ـ بل دعا لهما بالبركة، ولو زاد ربحها أكثر من ذلك لأقرَّهما عليه؛ لأنه لم يكن منه تحديد لمقدار الربح، فلم يكن منه إنكار لِما رَبِح.
وهذا يدل على أن ربح التاجر من بيع سلعته ليس له حَدٌّ أعلى إذا رُوعِيَت فيه الآداب السابقة، إلا أنه ينبغي للتاجر أن يَرْفَقَ بالناس، وأن يُيَسِّر عليهم في أسعار السلع حتى يتمكنوا من شراء ما يحتاجون إليه منها.
وقد صدر قرار من مجلس مجمع الفقه الإسلامي بالمملكة العربية السعودية سنة 1409هـ ينص على: “ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يَتَقَيَّد بها التُّجَّار، في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة، وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والتيسير.