لقد كان للغة العربية والأدب العربي أثر بالغ في أبناء الحضارات الأخرى ،حتى ترك كثير من أبناء هذه الحضارات لغة قومهم ،وأحلوا اللغة العربية محلها ،فكانت لغتهم التي يتعاملون بها ، في خطاباتهم ومراسلاتهم ، حتى نعى بعضهم أن لغتهم لا محل لها من الاهتمام، وأن بني قومه برعوا في تعلم اللغة العربية وفاق بعضهم العرب أنفسهم.
كما ظهر أثر الأدب أيضًا في الحضارة الغربية ، فتأثر أدباؤها بفنون الأدب العربي من الفروسية والمجد ،وأخذ كثير منهم عن القصص العربي كألف ليلة وليلة بعد ترجمتها لكثير من اللغات ،وملحمة حي بن يقظان وغير ذلك من الأشكال الأدبية التي أثرت تأثيرًا مباشرًا على الأدب الغربي ، وبذلك اعترف كثير منهم .

وقد جاء في كتاب من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي أستاذ الشريعة بسوريا (رحمه الله):
في ميدان اللغة والأدب تأثر الغربيون وخاصة شعراء الأسبان بالأدب العربي تأثرًا كبيرًا، فقد دخل أدب الفروسية والحماسة والمجاز والتخيلات الراقية البديعة إلى الآداب الغربية عن طريق الأدب العربي في الأندلس على الخصوص، يقول الكاتب الأسباني المشهور أبانيز: ” إن أوربة لم تكن تعرف الفروسية ولا تدين بآدابها المرعية ولا نخوتها الحماسية قبل وفود العرب إلى الأندلس وانتشار فرسانهم وأبطالهم في أقطار الجنوب”.

ويدلنا على مدى تأثر الأدباء الغربيين بالعربية وآدابها في تلك العصور ما نقله لنا دوزي في كتابه عن الإسلام من رسالة ذلك الكاتب الأسباني (الغارو) الذي كان يأسي أشد الأسى لإهمال اللغة اللاتينية والإقبال على لغة المسلمين، فيقول: ” إن أرباب الفطنة والتذوق سحرهم رنين الأدب العربي، فاحتقروا اللاتينية، وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها” وساء ذلك معاصرًا كان على نصيب من النخوة الوطنية أوفى من نصيب معاصريه ، فأسف لذلك مر الأسف وكتب يقول: ” إن إخواني المسيحيين يعجبون بشعر العرب وأقاصيصهم، ويدرسون التصانيف التي كتبها الفلاسفة والفقهاء المسلمون، ولا يفعلون ذلك لإدحاضها والرد عليها بل لاقتباس الأسلوب العربي الفصيح، فأين اليوم ـ من غير رجال الدين ـ من يقرأ التفاسير الدينية للتوراة والإنجيل؟ وأين اليوم من يقرأ الأناجيل وصحف الرسل والأنبياء؟ واأسفاه! إن الجيل الناشئ من المسيحيين الأذكياء لا يحسنون أدبًا أو لغة غير الأدب العربي واللغة العربية، وإنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكبيرة بأغلى الأثمان ويترنمون في كل مكان بالثناء على الذخائر العربية، حين يسمعون بالكتب المسيحية فيأنفون من الإصغاء إليها محتجين بأنها شيء لا يستحق منهم مؤنة الالتفات، فيا للأسى! إن المسيحيين قد نسوا لغتهم فلن تجد فيهم اليوم واحدًا في كل ألف يكتب بها خطابًا إلى صديق، أما لغة العرب فما أكثر الذين يحسنون التعبير بها على أحسن أسلوب، وقد ينظمون بها شعرًا يفوق شعر العرب أنفسهم في الأناقة وصحة الأداء”.

ومن عباقرة الأدب في أوروبا في القرن الرابع عشر وما بعده من لم يشك أبدًا في تأثير الآداب العربية على قصصهم وآدابهم، ففي سنة 1349 كتب بوكاشيو حكاياته المسماة بـ (الصباحات العشرة) وهي تحذو حذو (ألف ليلة وليلة)، ومنها اقتبس شكسبير موضوع مسرحيته (العبرة بالخواتيم ) كما اقتبس لسنغ الألماني مسرحيته (ناتان الحكيم).
وكان شوسر إمام الشعر الحديث في اللغة الإنجليزية أكبر المقتبسين من بوكاشيو في زمانه، فقد لقيه في إيطاليا ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم حكايات كانتربري.
أما دانتي فيؤكد كثير من النقاد أنه كان في (القصة الإلهية) التي يصف فيها رحلته إلى العالم الآخر متأثرًا برسالة الغفران للمعري ووصف الجنة لابن عربي، ذلك أنه أقام في صقلية على عهد الإمبراطور فريدريك الثاني الذي كان مولعًا بالثقافة الإسلامية ودراستها في مصادرها العربية، وقد دارت بينه وبين دانتي مساجلات في مذهب أرسطو كان بعضها مستمدًا من الأصل العربي، وكان دانتي يعرف شيئا غير قليل من سيرة النبي ـ ـ فاطلع منها على قصة المعراج والإسراء ووصف السماء.
أما “بترارك” فقد عاش في عصر الثقافة العربية بإيطاليا وفرنسا، وطلب العلم في جامعتي مونبلييه وباريس وكلتاهما قامتا على مؤلفات العرب وتلاميذهم في الجامعات الأندلسية.

وقد تأثرت القصة الأوروبية في نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص في القرون الوسطي، وهي المقامات وأخبار الفروسية ومغامرات الفرسان في سبيل المجد والعشق، وكان لألف ليلة وليلة بعد ترجمتها إلى اللغات الأوروبية في القرن الثاني عشر أثر كبير جدًا في هذا المجال حتى أنها طبعت منذ ذلك الحين حتى الآن أكثر من ثلاثمائة طبعة في جميع لغات أوروبا، حتى ليرى عدد من النقاد الأوروبيين أن رحلات جليفر التي ألفها سوبقت، ورحلة وبنسون كروزو التي ألفها ديفوه مدينة لألف ليلة وليلة ولرسالة حي بن يقظان لفيلسوف العربية ابن طفيل.

ولا يشك أحد في أن هذه الكثرة الهائلة لطبعات ألف ليلة وليلة دليل على إقبال الغربيين على قراءها ومن ثم على تأثرهم بها.

ولا حاجة بنا إلى أن نذكر ما دخل اللغات الأوروبية على اختلافها من كلمات عربية في مختلف نواحي الحياة حتى أنها لتكاد تكون كما هي في اللغة العربية، كالقطن، والحرير الدمشقي، والمسك، والشراب، والجرة، والليمون، والصفر، وغير ذلك مما لا يحصي.

وحسبنا في هذا المقام قول للأستاذ ماكييل: (كانت أوروبا مدينة بأدبها الروائي إلى بلاد العرب، وإلى الشعوب العربية الساكنة في النجد العربي السوري تدين بأكبر قسم أو بالدرجة الرئيسية لتلك القوى النشيطة التي جعلت القرون الوسطي الأوروبية مختلفة روحًا وخيالا عن العالم الذي كان يخضع لروحه.انتهى
ولا شك أن التأثر باللغة والأدب العربي كان له أثر بالغ في سلوك الغربيين وتغيير نمط حياتهم ، شأنه شأن أي أدب لما للأدب من تأثير على النفوس ،وتهذيب للسلوك.