اختلف العلماء حول قضية النسخ في القرآن، وجمهور القدامى على أن النسخ موجود، وأنكره قلة، على أن هناك شروطا مهمة تضبط المسألة، فالأصل أن كل آية في القرآن نزلت ليعمل بها، ولا يصار إلى النسخ إلا لدليل.

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :-

مما لا يشك فيه مسلم: أن هذا القرآن كلام الله تعالى لفظا ومعنى، ليس لجبريل فيه إلا النزول به من السماء إلى الأرض: (نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين) الشعراء:193 وليس لمحمد منه إلا تلقيه وحفظه، ثم تبليغه للناس، وتلاوته عليهم: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) الأعلى:6 ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) المائدة:67 (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل:44

فهو (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هو:1، (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) فصلت:42

وإن الله تعالى أنزل هذا الكتاب، ليهتدي الناس بهداه، ويعملوا بموجبه، وينزلوا على حكمه، أيا كان موقعهم أو منزلتهم، حكاما أو محكومين، يقول تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه، مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) الأنعام:155 (واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) الأعراف:3 (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ليحكم بين الناس بما أراك الله) النساء:105 (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم بما جاءك من الحق) المائدة:48 (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) المائدة:49

فهذه النصوص كلها توجب على الأمة ـ بيقين لا ريب فيه ـ اتباع ما أنزل الله، والاحتكام إليه إذا اختلفوا، وقال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) النساء:59 وقد أجمعت آياته على أن المرد إلى الله تعالى يعني: الرد إلى كتابه.

وقال تعالى في شأن قوم: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) النساء:61

فكيف يسوغ للمسلم –بغير برهان قاطع- أن يأتي بعد هذه البينات إلى بعض آياته من كتاب الله، ليقول عنها: إنها ملغاة بطل مفعولها! يا للهول من هذا القول!

ولكن هذا ما حدث، فقد شاع القول بأن في القرآن آيات منسوخة، وأخرى ناسخة، وصيغت في ذلك الكتب، وتوارثه الخلف عن السلف، وأصبحت وكأنها قضية مسلمة، مع أن القضية ليس فيها نص قاطع ولا إجماع بيقين!

فما أدلة القائلين بالنسخ في القرآن؟

1ـ الدليل الأول من القرآن:

أول الأدلة وأبرزها قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) البقرة:106 فهذه الآية الكريمة هي عمدة القائلين بالنسخ.

ومعناها عند عامة العلماء أو جمهورهم: ما قاله الطبراني في (جامع البيان) ونقله عنه أمة كثير: قال: (ما ننسخ من آية): ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك: أن نحول الحلال حراما، والحرام حلالا، والمباح محظورا، والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والاطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. قال ابن كثير: وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب، لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء، ولحظ بعضهم: أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر. انتهى.

ومن أدلتهم من القرآن قوله تعالى: (وإذا أبدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا: إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) النحل: 101.

قالوا: المراد بالتبديل هنا: النسخ.

2ـ إقرار العلماء كافة بوجود النسخ في القرآن:

ومن الأدلة على شرعية النسخ في القرآن أن العلماء من قديم قالوا بمبدأ النسخ، ذهبوا إلى أن في القرآن آيات منسوخة، اختلفوا فيها اختلافا كثيرا، فهذا يقول بنسخ هذه الآية، وآخر أو آخرون يعارضونه. ولكن المحصلة النهائية: أنهم جميعا أقروا بقاعدة النسخ.

وقد ذكر ذلك في كتب التفسير كلها، كما ألفت كتب خاصة في الناسخ والمنسوخ في القرآن، لأبي عبيد، وأبي جعفر النحاس، وأبن وهبة الله الضرير، وابن العربي وابن الجوزي وغيرهم.

ولكن الذي يتأمل ما جاء عن السلف فيما سموه (نسخا) يجد أن كثيرا منه ليس من النسخ المعروف عند المتأخرين في شيء، والآفة هنا تأتي دائما من إطلاق المصطلحات الحادثة على المصطلحات القديمة، مع تغايرها وتباينها، فقد كانوا يريدون بالنسخ ما قد يسميه المتأخرون تخصيصا للعام أو تقييد للمطلق، أو غير ذلك، ولا يعنون به (رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر) .

وهذا ما نبه عليه المحققون من أمثال الأمام ابن القيم الحنبلي، والإمام الشاطبي المالكي، وهذا في المغرب، وذاك في المشرق.

يقول ابن القيم: ” ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ، رفع الحكم بجملته ـ تارة ـ وهو اصطلاح المتأخرين ـ ورفع دلالة العام والمطلق وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد مطلق وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحدث المتأخر “.

ويقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي: “الذي يظهر من كلام المتقدمين: أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا. كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر نسخا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد “.

3ـ وجود المنسوخ بالفعل:

ومن أدلة القائلين بالنسخ: وجود المنسوخ بالفعل، وليس أدل على جواز الأمن من وقوعه بالفعل، فإن الوقوع أقوى من مجرد الجواز، فإن الشيء قد يكون جائزا ولا يقع.

ودليل الوجود بالفعل أمران:

الأول: وجود آيات متعارضة في القرآن، ولا يمكن الجمع بينهما، ولا تفسير لهذا التعارض في كتاب الله، إلا أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ. ولذلك أمثلة كثيرة ذكرها العلماء مثل آية التخيير في الصوم: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) البقرة: 184 عارضتها الآية التي قبلها: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) البقرة:185، فالآية الأولى خيرت بين الصيام ودفع الفدية: طعام مسكين، والآية الثانية ألزمت بالصيام (فليصمه).

وفي البقرة أيضا: آيتا النساء المتوفى عنهن أزواجهن الآية الأولى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أوزاجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا، فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) البقرة:234

والآية الأخرى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، وصية لأزواجهم متاعا إلى إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف).

قالوا: الآية الأولى نسخت الآية الثانية، وإن  كانت قبلها في المصحف.

الثاني: ما ذكرناه من أقوال عدد من مفسري القرآن بوقوع النسخ في أعداد من الآيات في عدد من سور القرآن مكية ومدنية.

ردود المنكرين للنسخ في القرآن:

وللمنكرين للنسخ في القرآن وجهتهم وموقفهم من هذه الأدلة التي استند إليها المدعون للنسخ والتوسعون فيه، ومن حقهم أن نستمع إليهم، ولا سيما بعد إفراط المفرطين في دعاوي النسخ.

الرد على الاستدلال بآية (ما ننسخ):

أما ما استدل به القائلون بالنسخ ـ وهم جمهور علماء الأمة أو عامتهم ـ من قوله تعالى: (ما ننسخ من أية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها ألم يعلم أن الله على كل شيء قدير. أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) البقرة:106 فإن الذين ينكرون النسخ لهم فيها نظر وتأويل يمكن أن يسمع.

فمنهم من قال: هذا في النسخ ما بين الشرائع بعضها وبعض، فمن المقرر المعروف: أن الأديان السماوية كلها متفقة في أصولها العقدية، ولكنها مختلفة في أحكامها التشريعية، كما قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) المائدة:48

وهذا من الحكمة لاختلافها بعضها عن بعض: زمانا وظروفا وأوضاعا، ولهذا حرمت التوراة بعض ما كان حلالا لأولاد آدم من صلبه من إباحة تزوج الأخ لأخته، نزولا على حكم الضرورة، وإلا ما تناسلت البشرية، واستمر النوع.

ومثل ما ذكره الله عن المسيح الذي قال لبني إسرائيل: (ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم) آل عمران:50 .

فالمقصود بالنسخ في الآية الكريمة هنا: نسخ بعض الأحكام التي جاءت بها التوراة أو الإنجيل من قبل، كما قال تعالى في وصف الرسول ، في التوراة والإنجيل: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف: 156.

وهذه الآية (ما ننسخ من آية أو ننسها) قد جاءت في سورة البقرة تمهد لما شرعه الله تعالى لمحمد وأهل ملته من (نسخ القبلة) وتغييرها من (بيت المقدس) إلى (المسجد الحرام) كما كان يتمنى النبي ، ولذا قال له : (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) البقرة:144 وقد أحدث يهود المدينة ضجة حول هذا التغيير، أو هذا النسخ للحكم القديم، ورد عليهم القرآن، : (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) البقرة:142

فلا غرو أن تأتي هذه الآية في هذه السورة، لتمهد لهذه المعركة التي أشعلها اليهود ضد نسخ القبلة.

فهذا رأي من أراء العلماء – وأنا منهم-: أن المراد بالنسخ: النسخ الواقع بين الشرائع السماوية بعضها وبعض. وهذا لا ينبغي أن ينكر، فهو مقبول حكمة وعقلا، ثابت واقعا وفعلا.

وروي عن بعض السلف مثل الضحاك (ما ننسخ من آية): ما ننسك. كأنه يشير إلى قوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) الأعلى:6 .

وقال عطاء: أما (ما ننسخ): فما نترك من القرآن، وقال ابن أبي حاتم: يعني: ترك فلم ينزل على محمد . انتهى.

وبهذا نرى أن الدلالة في الآية ليست دلالة قاطعة على مشروعية النسخ في القرآن لو كانت قاطعة ما وجدنا من العلماء القدامى من ينكر النسخ بالكلية مثل أبي مسلم الأصفهاني؟ وما وجدنا حديثا: من ينكر النسخ كذلك. مثل الأستاذ الأمام محمد عبده، كما نقل ذلك صاحب تفسير المنار، فإنه فسر كلمة (أية) في قوله: (ما ننسخ من آية) بأن المراد بها: الآية الكونية، مثل الآيات التي أيد الله بها رسله قبل محمد عليه الصلاة والسلام. وأيد ذلك بأن الآية ختمت بقوله تعالى: (ألم تعلم بأن الله على كل شيء قدير) وهذا التذييل يناسب الآيات الكونية وإلا لكان الأنسب أن يقال: ألم تعلم أن الله عزيز حكيم. وكذلك قوله بعدها: أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل، وقد سألوه آيات كونية، مثل : أرنا الله جهرة ونحو ذلك، فهذا التعقيب أقرب إلى الآيات الكونية من الآيات التنزيلية والتشريعية.

و يكفينا هنا: أن نقول: أن الآية التي هي عمدة القائلين بالنسخ ليست قاطعة الدلالة على قولهم، مع أن قولهم بإنهاء حكم آية أو أكثر من كتاب الله من الخطورة ومن الأهمية، بحيث يحتاج إلى دليل قطعي بسنده، وإلا فإن الأصل: أن آيات كتاب الله محكمة ملزمة، عامة دائمة ثابتة إلى يوم القيامة.

آية سورة النحل:

وأما الآية الأخرى من سورة النحل التي استدل بها القائلون بالنسخ، وهي قوله تعالى: (وإذا أبدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا: إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) النحل:101.

قالوا: المراد بالتبديل هنا: النسخ.

ولكن المنكرين يقولون: أن هذه الآية من سورة النحل: مكية بالإجماع، وفي العهد المكي لم يحدث أي نسخ في القرآن الكريم .

وما قيل في تأويل آية البقرة، يسهل أن يقال هنا، بل ربما كان أكثر قبولا.

ليس في السنة دليل على النسخ في القرآن:

إن من قرأ كتب الحديث الستة المعروفة، أو التسعة –بإضافة الموطأ ومسند أحمد والدارمي- أو الأربعة عشرة، بإضافة مسندي أبي يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة – أو السبعة عشر- بإضافة صحيح أبن خزيمة، وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم – وأكثر منها: لم يجد فيها حديثا ثابتا عن رسول الله ، يقول فيه: أن الآية الفلانية في سورة كذا منسوخة وقد بطل حكمها، أو يقول: أن هذه الآية من سورة كذا قد أبطلت حكم آية كذا من سورة كذا.

فقد تلقى كتاب الوحي، وحفاظ القرآن، وعامة الصحابة: القرآن من فم رسول الله ، كما أمره ربه أن يبلغه (بلغ ما أنزل إليك من ربك) ولم يسمعوا من رسول الله شيئا من ذلك.

كما أن الله تعالى كلفه ببيان القرآن المنزل عليه، كما قال تعالى: (ونزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) النحل:44 ولم يكن في بيانه للقرآن طوال ثلاثة وعشرين عاما: ما يفيد أن آية نسخت آية أخرى، مع أهمية هذا البيان وضرورته، وحاجة المسلمين الماسة إليه، وقد قرر العلماء: أن تأخير البيان عند وقت الحاجة لا يجوز، لما فيه إضلال الناس عن الحقيقة.

لا إجماع على النسخ في القرآن:

وكما أنه لا يوجد دليل قاطع من القرآن على شرعية النسخ، ولا دليل قاطع ولا غير قاطع من الحديث النبوي: كذلك لا يوجد إجماع من الأمة ـ التي  لا تجتمع على ضلالة ـ على جواز النسخ ووقوعه في القرآن.

وقد عرفنا من المخالفين للنسخ في القرآن؟ أبا مسلم الأصفهاني، الذي يذكر الإمام فخر الدين الرازي في (تفسيره الكبير) أقواله المعارضة للنسخ في الآيات التي اشتهر فيها القول بالنسخ، كما يذكر دليله على عدم قبول النسخ. ويبدو لمن يتأمل كلام الرازي ونقله عن أبي مسلم، وعدم رده على قوله، يبدو كأنه يؤيده بوجه من الوجوه، وفي بعض الأحيان قال: رأى أبي مسلم  – إن لم يسبقه إجماع- فهو قول صحيح حسن .

وقد ذكر الإمام الزركشي في البرهان: أن هناك من العلماء من نفى النسخ في القرآن، أو نفى النسخ بالكلية في الشريعة، فقد تكلم عن معنى النسخ ثم قال:

(اختلف العلماء فقيل: المنسوخ ما رفع تلاوة تنزيله، كما رفع العمل به (يريد: أن ما بقي لفظه متلوا في القرآن لا ينسخ). ورد بما نسخ من التوراة والإنجيل بالقرآن، وهما متلوان.

وقيل: لا يقع النسخ في قرآن يتلى وينزل. قال: ويفرّ هؤلاء من القول بأن الله ينسخ شيئا بعد نزوله والعمل به.

قال: والصحيح: جواز النسخ ووقوعه سمعا وعقلا. انتهى.

ومما يؤيد نفي الإجماع: أنه لا توجد آية قيل بنسخها، إلا وجدنا من يخالف فيها من المفسرين المتقدمين.

ومعنى هذا: أنه لا توجد آية في كتاب الله: اتفق جميع العلماء على أنها منسوخة.

والأصل في آيات القرآن: أن الله عز وجل إنما أنزلها، ليُعمل بها، ويهتدى بهداها، لا ليبطل حكمها بآية أخرى. وإنه جعل هذا الكتاب متشابها بصدق بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا، ويتكامل بعضه مع بعض، كما قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) النساء:82

يقول الإمام أبو محمد ابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام):

(لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة هذا منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) النساء:64 وقال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) الأعراف:3  فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن، أو على لسان نبيه ـ ففرض اتّباعه، فمن قال في شيء من ذلك: إنه منسوخ، فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتّباعه. وهذه معصية لله تعالى مجردة، وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله، وإلا فهو مفتر مبطل. ومن استجاز خلاف ما قلنا ـ فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها؛ لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما، وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شيء من الدين.

وبعد الإمام ابن حزم، نجد الإمام أبا إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي يؤكد ما قاله ابن حزم برغم تفاوت ما بينهما في الاتجاه، فابن حزم (ظاهري) والشاطبي ( مقاصدي).

يقول الشاطبي في (موافقاته):

(إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف  -فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق. ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبرَ المتواتر؛ لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون. فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعى نسخه – لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، ولا دعوى الإحكام فيهما. وهكذا يقال في سائر الأحكام مكية كانت أو مدنية…).

وبعد أن يقرر أن (غالب ما ادعى فيه النسخ إذا تؤمل وجد متنازعا فيه، ومحتملا، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين، على وجه من كون الثاني تفصيلا لمجمل أو تخصيصا لعموم…إلخ)، وبعد أن يذكر أن ابن العربي قد أسقط من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة ـ نراه ينقل عن الطبري حكاية الإجماع عن أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت، ثم اختلافهم في نسخها، ليقول عقب هذا: قال النحاس: فلما ثبتت بالإجماع، وبالأحاديث الصحاح عن النبي ـ لم يجز أن تزال إلا بالإجماع، أو حديث يزيلها ويبين نسخها. ولم يأت من ذلك شيء).

التضييق في دعاوى النسخ:

على أن الذي يهمنا هنا أن نقرره ونبينه ونثبته، هو: التضييق الشديد في دعاوى النسخ في كتاب الله، فإن الله تعالى لم ينزل كتابه إلا ليهتدى بهداه، ويعمل بأحكامه، وكل دعوى لنسخ آية أو بعض آية منه، فهو على خلاف الأصل، وما جاء على خلاف الأصل لا يقبل إلا ببرهان يقطع الشك باليقين.

ولو طبقنا ما وضعه علماء أصول الدين، وعلماء أصول الفقه، وعلماء أصول التفسير، وعلماء أصول الحديث، من ضوابط وشروط، فإننا لا نكاد نجد آية في القرآن الكريم مقطوعا بنسخها، وما لم يقطع بنسخه فيجب أن يبقى حكمه ثابتا ملزما كما أنزل الله تعالى.

من شروط قبول النسخ في القرآن:

ومن شروط قبول النسخ عند من سلم به: أن يكون هناك تعارض حقيقي بين النص الناسخ، والنص المنسوخ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحال من الأحوال، أما إذا أمكن الجمع ولو حال من الأحوال، فلا يثبت النسخ، لأنه خلاف الأصل.

ولهذا رأينا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره (جامع البيان) يرفض كثيرا من دعاوى النسخ المروية عند بعض المفسرين إذا لم يجد تنافيا كاملا بين الناسخ والمنسوخ.

انظر قوله فيما روي عن قتادة في الآية الكريمة من سورة الأنفال: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) الآية:61، فقد ذهب قتادة إلى أن هذه الآية كانت قبل نزول سورة (براءة)، فلما نزلت نسخت ذلك، بمثل قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وقوله: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) فأمرت بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: لا إله إلا الله.

وورد عن عكرمة والحسن البصري ما يوافق قول قتادة، وإن جعلا الآية الناسخة من براءة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر…… حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).

قال الطبري رحمه الله يرد هذه الدعوى:

(فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله – من أن هذه الآية منسوخة- فقول لا دلالة عليه من كتاب، ولا سنة، ولا فطرة عقل، وقد دللنا – في غير موضع من كتابنا هذا وغيره – على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه، فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائن ناسخا).

كيف يعرف النسخ في القرآن؟

نقل السيوطي في إتقانه عن العلامة ابن الحصار قوله: إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله ، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا.

قال: وقد نحكم به عند التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، لنعرف المتقدم والمتأخر.

قال: ولا يعتمد في النسخ قول عوامّ المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بينه، لأن النسخ يتضمن رفع حكم، وإثبات حكم تقرر في عهد الرسول . والمعتمد فيه: النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد.

قال : والناس في هذا بين طرفَيّ نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن تساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما، انتهى.

وأود أن أقول هنا: إني لا أعرف نقلا صريحا عن رسول الله يقول: آية كذا نسخت آية كذا. ومن عرف ذلك فليدلني عليه.

وأما قول الصحابي: آية كذا نسخت آية كذا، فلا بد لقبوله من ثلاثة شروط:

الأول: أن يصح سنده عن الصحابي.

الثاني: ألا يكون قاله باجتهاد منه، ظنا منه أن الآية معارضة للآية الأخرى، وقد لا يسلم له بذلك، فهو يكون رأيا منه يعارض برأي غيره.

الثالث: ألا تكون كلمة النسخ جارية على مفهوم المتقدمين، وهو ما يشمل : تخصيص العام، وتقيد المطلق، وتفصيل المجمل، والاستثناء والغاية وغيرها.

ويندر وربما يتعذر أن توجد لدينا آية تتحقق فيها هذه الشروط.

ومن المهم هنا أن ننتبه إلى أهمية الشرط الثالث هنا، فكثير من المتقدمين يقولون. آية كذا نسخت آية كذا، ولا يقصد بذلك ما يقصده المتأخرون بكلمة النسخ، فلم يكن هذا الاصطلاح قد استقر عندهم، كما استقر عند من بعدهم، وهو: رفع حكم شرعي بدليل متأخر، وهذا ما نص عليه المحققون من أمثال ابن القيم والشاطبي رحمهما الله. وقد سبق نقل قولهما.