إن كلمة المُنكَر تشمل المَكروه والمُحرَّم، فكلٌّ منهما يُنكره الشرْع، وإن كان المكروه لا عقاب عليه في كراهة التنزيه وعقابه أخفَّ في كراهة التحريم، وإنكار المكروه الأول مندوب لا واجب. ومثل ذلك المعروف الذي يُؤمر به، فهو يشمل الواجب والمندوب، وإنْ كانَ تَرْكُ المندوب لا إثْم فيه، وتَرْكُ الواجب فيه إثْم، فالأمر بالواجب واجبٌ، والأمر بالمندوب سُنَّةٌ.
وشرط المنكر أن يكون ظاهرًا بغير تَجسُّس؛ لأن الله نهَى عن التجسُّس وأمر بالستْر، ولا يجوز التجسُّس حتى للإمام والمُحتسب المأذون له في تغيير المنكر، كما قال الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية” (ص 252) إلا إذا غلَب على ظنِّه استمرارُ قومٍ بالمَعصية لأمارةٍ وآثارٍ ظهرت، ولو لم يتجسَّس لانْتُهِكَتْ حُرْمةٌ يَفُوت استدراكها، كما لو أخبَر ثقةٌ بخُلُوِّ رجلٍ برجلٍ ليَقتله، وهنا يَجوز التجسُّس حتى لغير المُحتَسِب.
ومِن شروط إنكار المنكَر أن يكون المنكَر بغير اجتهاد، فلا يُنكَر على الأمر المُختلَف في حُرمته وكراهته مثلًا؛ لأن كل مجتهدٍ مُصيبٌ، كما هو المختار عند أكثر المُحققين. لكن يُندب الإنكار إذا لم يترتب عليه مَحظور، حتى لو كانَ مُحتسِبًا لا يَحمل الناسَ على ما يُوافق مذهبَه هو ما دام فيه خلاف.
ومِن هنا نرى خطأَ كثيرينَ من الجُهَّال في الحماس الشديد لإنكار مَكروه أو أمرٍ بمَندوب أو لمَا فيه خلاف مِن الأحكام. لقد قال النبي ـ ﷺ ـ لمَن سأله عن الفَرائض فأَقسَمَ ألاَّ يَزيدَ عليها ولا يَنقُصَ: “أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ” (رواه مسلم) ولم يُنكر عليه تَرْكَه للتطوُّع. إن بعض المُنكرين للمَكروه والآمرينَ بالسُّنَّة يَرتكبون آثامًا عند عدم الاستجابة لهم، منها هجر المُخالِف ومُخاصمته فوق ثلاث ليال، وذلك مُحرَّم بالحديث الصحيح المعروف، ومنها عدم إلْقاء السلام عليه وعدم زيارته أو عيادته في مرضه أو مَعونته عند الحاجة، وبذلك يفوت عليه ثوابٌ كبير، بل قد يجرُّ ذلك إلى غِيبتهِ أو الدَّسِّ والوقيعة به، أو إيذائه في ماله أو مَنصبه إن كان يملك ذلك. وهكذا يُفوِّت الجهل على الجاهل خيرًا كثيرًا، ويُوقعه في آثامٍ ما كانَ أغناه عنها لو أنه عرَف أصول الدعوة إلى الله.
ومِن هنا نُوَجِّه النُّصْح إلى الوُعَّاظ عامَّةً ألاّ يُنكروا على الناس أمرًا لم يُجمَع على أنه مُنكَر، بل الطريق الأمْثل أن يكون حِوارٌ هادئ تُتبيَّن منه وِجْهة النظر، وألَّا يَشْتَطُّوا في الانتصار لمَذهبهم وتَخطئة مَن لا يقول بمِثل ما يقول الواحد منهم، فإن ذلك فيه تعصُّبٌ، والتعصب مَمقوت، وفيه بلبلة لأفكار العامَّة حين يسمعون مِن خطيب شدة الإنكار على أمره ومِن خطيب آخر عَدَمَ الإنكار عليه بل الدعوةَ إليه، وفيه زعزعةٌ لِثِقَة الناس بالعلماء، وقد يَلجئون إلى مصادرَ أخرى يَزدادون بها حَيْرةً وبلبلةً، ويكون الانحراف الذي يجب أن نَحُولَ دونه.
وإذا كُنَّا نُوجِّه هذا النصح للدعاة فأولَى أن نُوجِّه إلى كل شخص ليس له العمق العلمي المَطلوب في المسائل الدينية ألَّا يُثِيرَ جدَلًا حول هذه الآراء غير المُجْمَع عليها، وألاّ يُكوِّنَ حزبًا يَجمع رُوَّادًا يَغرس فيهم فِكْرَه على أنه هو الصواب وحده وما بعده خطأ.
ونؤكد التوصية بأن يكون المُتصدي للدعوة العامة واسعَ الأفُق مُطَّلِعًا على المذاهب والآراء المختلفة، فالعلْم الناقص علْم مُنحرف، وهو شرٌّ على صاحبه وعلى مَن يأخذون عنه وعلى المجتمع كله، وفي المعرفة الصحيحة والاطلاع الواسع راحةٌ للنفس وهدوءٌ للأعصاب وحَلٌّ لكثير مِن المشكلات المُعقدة والقضايا المُستعصية، وصوْنٌ للوَحدة مِن التَّفَتُّتِ وللمجتمع مِن الضياع، وفرصة لإظهار سماحة الإسلام وعطائه الثَّرِّ الدائم الذي يَصلُح به للتطبيق في كل زمان ومكان.
إن الجمود على رأي مِن الآراء غير القاطعة يجعل الإسلام مُنعزلًا وسط هذا العصر المملوء بالتيارات والآراء، وبالمُبتكَرات الجديدة التي أفادت منها الإنسانية كثيرًا، فما دامت الأصول الثابتة للدين قائمة فهي العُمُدُ الأساسية التي يُقام عليها بناء الإسلام، وما الفروع إلا مُكمِّلات يمكن أن تتغير فيها وِجهات النظر بقصد زيادة الدين كمالًا فوق كمال، أو على الأصحِّ إظهار ما فيه مِن كمالٍ أصيل يحتاج إلى إبرازه بصورة تتناسب مع أسلوب العصر.
من كتاب بيان للناس الصادر عن الأزهر