دور المجتمع المسلم مع المشاعر الإنسانية يتمثل فيما يلي:
أولاً : تثبيت هذه المشاعر وتقويمها، وإشاعتها بكل الوسائل الإعلامية والتربوية:
المسجد، المدرسة ، الكتاب، الصحيفة، الإذاعة، التلفاز، الخيالة، وكل وسيلة تعين على تحقيق هذه الغاية.
لقد رأينا النبي ( ﷺ) لكي يثبت مشاعر الإخاء بين المسلمين يقول دبر كل صلاة: (اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن العباد كله أخوه) تثبيتاً لهذا المعنى الكبير.
ومن حسن حظ المسلمين أن الأفكار والمشاعر التي جاء بها دينهم لم يدعها مجرد أشياء مثالية مجنحة، بل ربطها بشعائرها وآدابه اليومية، فإذا نظرنا إلى الصلاة الإسلامية وجدنا فيها تثبيتاً مستمراً لما يدعوا إليه الإسلام من التعارف والإخاء والمحبة والمساواة. كذلك الصيام والحج، وكذلك أدب التحية وتشميت العاطس وعيادة المريض، وغيرها من الآداب الاجتماعية التي حث عليها الإسلام.
ثانيا : تجسيد هذه المشاعر الإسلامية في واقع ملموس وأوضاع عملية:
فمشاعر التراحم والمودة بين ذوي القربى يجب أن تتجسد في تواصل وتزاور وتكافل. يتمثل في نظام “النفقات” في الإسلام، حيث يجب على القريب الموسر أن ينفق على قريبه المحتاج كما قال تعالى ( وآت ذا القربى حقه)، (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)، ومثله نظام الميراث( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون مما قل منه أو كثر، نصيباً مفروضا).
ومشاعر الإخاء والمحبة بين المسلمين يجب أن تتجسد في صورة تكافل معاشي وتضامن، واتحاد، وتعاون اقتصادي، بمعنى أن يتجسد هذا الإخاء في مثل “الزكاة” تؤخذ من أغنيائهم، لترد على فقرائهم، وهكذا بقية الأمور.
لهذا رأينا النبي (ﷺ)من أول قدومه إلى المدينة بعد الهجرة يؤاخي بين المهاجرين والأنصار مؤاخاة عاطفية عملية، جعلتهم يتقاسمون السراء والضراء، حتى روى أنهم كانوا يتوارثون بهذا الإخاء.
ولما انتهى هذا الإخاء الخاص بقي الإخاء العام يسود المجتمع الإسلامي ويحكمه متمثلاً في نظام التكافل الفريد، بشتى أقسامه وألوانه، والتعاون الشامل بين كافة أفراده وجماعاته، ذلك التعاون الذي مثله النبي (ﷺ) خير تمثيل كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
ألا يسمح للمشاعر المضادة الإسلامية بالظهور والتأثير في المجتمع المسلم، بل يجتث جذورها حتى لا تظهر، ويطاردها إذا ظهرت بحيث تموت في مهدها
ولهذا رأيناه (ﷺ) يبرأ من العصبية – المنافية للأخوة الإسلامية- ويقاومها بصراحة وجلاء خشية على المجتمع الإسلامي الوليد أن تمزقه الجاهلية التي سادته دهراً طويلاًـ وجعلت الرجل يغضب لابن قبيلته محقاً كان أو مبطلاً، ظالماً أو مظلوماً. وفي هذا جاء الحديث الشريف يبرأ من كل من دعى إلى عصبية، أو قاتل إلى عصبية، أو مات على عصبية.
ولما استطاع رجل من خبثاء اليهود أن يحيى مشاعر العصبية الجاهلية بين الأوس والخزرج يوماً أطفأ رسول الله نار الفتنة بنور الإيمان , وردهم إلى أخوة الإسلام . فقد ذكر المفسرون عن محمد بن إسحاق وغيره : أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة . فبعث رجلا معه , وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم ( بعاث ) وغيره من أيام الجاهلية , ففعل , فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض , وتثاوروا ونادوا بشعارهم : يا للأوس ويا للخزرج , وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى ( الحرة ) , فبلغ ذلك النبي (ﷺ) فأتاهم بمن معه من المهاجرين من أصحابه فقال : ” يا معشر المسلمين ! الله , الله ! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟!. بعد أن هداكم الله إلى الإسلام , وأكرمكم به , وقطع عنكم أمر الجاهلية , واستنقذكم به من الكفر , وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ) ؟! فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوهم , فألقوا السلاح من أيديهم , وبكوا , وعانق الرجال بعضهم بعضا , ثم انصرفوا مع رسول الله (ﷺ) سامعين مطيعين ” .
وهكذا يجب أن يكون المجتمع المسلم متنبهاً إلى هذه المداخل التي يدخل منها الشيطان ليفسد بها قلوب المسلمين , ويثير بينهم نزغات الجاهلية . ومن هنا يجب أن يتحرر المجتمع المسلم في عصرنا من غلو النزغات العصبية العنصرية ( القومية ) والإقليمية ( الوطنية ) التي تتسرب إلى حياة المسلمين لتحل محل الأخوة الإسلامية والوحدة الإسلامية , وتقف منها موقف العداء .
لا جناح على المسلم أن يوجه اهتمام أكبر إلى قومه الأقربين , وإلى وطنه الخاص، فهذا أمر فطري , ولكن في دائرة انتمائه الكلي للإسلام وأمته .
ثالثاً : أن يسد النوافذ التي تهب منها ريح البغضاء والخصومة والفرقة , ويقضي على العوامل التي تدمر معاني الإخاء الإسلامي , وتهدم المشاعر الإنسانية .
وهذا هو السر في تحريم الإسلام للغيبة والنميمة والسخرية بالخلق , وغيرها من الرذائل التي تمزق العلاقات , وتقتل روح المحبة بين الناس .
يقول النبي (ﷺ) : ” إن أحبكم إلى وأقربكم منى في الآخرة : أحاسنكم أخلاقا , وإن أبغضكم إلى وأبعدكم منى في الآخرة : أساوئكم أخلاقا ، الثرثارون المتفيهقون المتشدقون” .
ومن هنا – أيضا – ينكر الإسلام التفاوت الفاحش بين الأفراد والطبقات بحيث يوجد الفقر المدقع إلى جنب الثراء العريض , والترف المسرف إلى جوار الحرمان البائس , إذ لا يتصور قيام أخوة بين مترف غارق في النعيم إلى أذقانه , وبين محروم يشكو سغب البطن وجفاف الريق .