مضت السنة باعتبار الكفاءة في الزواج بالدين والحرية والأخلاق واليسار والنسب والصناعة ، والكفاءة من مسائل المعاملات التي يحكم فيها العرف وتختلف باختلاف الزمان والمكان ، وإذا توفرت الكفاءة وجب تزويج الخاطب مع تحققها واعتبار الولي عاضلاً للمخطوبة إذا امتنع من التزويج .

يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا– رحمه الله-:

عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه قال : ( جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته ، قال : فجعل الأمر إليها ، فقالت : قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء ) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وسنده صحيح , وهو يدل على اعتبار الكفاءة في صفات الرجل مع الاتفاق في النسب , ويدل على أن المرأة تتزوج برضاها ، وفي هذا أحاديث كثيرة كما أن هناك أحاديث في اشتراط الولي وكونه هو الذي يزوج بإذنها .

عن أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-: ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، قالوا : يا رسول الله ، وإن كان فيه .قال : ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ) ثلاث مرات ، رواه الترمذي ، وقال : حسن غريب , ولم يرو أبو حاتم غيره , وأرسل الحديث أبو داود وأعله ابن القطان بالإرسال وضعف راويه ، وقد أخرجه الترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة بلفظ : ( إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ) ورواه الليث بن سعد عن أبي عجلان مرفوعًا ، وقد خُولف عبد الحميد بن سليمان في رواية الترمذي ، وقال البخاري : حديث الليث أشبه ، ولم يعد حديث عبد الحميد محفوظًا ، ومعنى الحديث أنه يجب تزويج البنت إذا جاءها الخاطب الذي يُرجى أن يحسن عيشها معه ؛ لأن دينه وخلقه مرضي لا يشكى منه ، واستدلوا به على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق , وخصها بذلك بعض الصحابة والتابعين ، وبه قال مالك ، ولم يعتبر هؤلاء الكفاءة في النسب ، بل قالوا : ( المسلمون بعضهم لبعض أَكْفَاء ) .

عن علي – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له : ( ثلاث لا تؤخر : الصلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت لها كفؤًا ) رواه الترمذي ، وهو حجة على تحريم عضل الأيامى – غير المتزوجات – بلا عذر .

عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( العرب أَكْفَاء بعضهم لبعض قبيلة لقبيلة ، وحيٌّ لحيٍّ ، ورجل لرجل إلا حائك أو حجام ) رواه الحاكم وله ألفاظ أخرى لا يصح منها شيء ، وإن قال بعضهم : إن الحاكم صححه ، وماذا عسى يغني تصحيح الحاكم ، وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عنه , فقال : هذا كذب لا أصل له ، وقال في موضع آخر : باطل ، وقال ابن عبد البر : هذا منكر موضوع ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : ولم يثبت في اعتبار الكفاءة في النسب حديث , وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه : ( العرب بعضهم أكفاء بعض ، والموالي بعضهم أكفاء بعض ) فإسناده ضعيف .نعم وورد في الصحيح ما يدل على فضل العرب ، وفضل قريش على العرب وفضل بني هاشم على قريش ، ولكن لم يرد ذلك في أمر الكفاءة .

عن عائشة وعمر : ( لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء ) رواه الدارقطني , والحسب المال , ولذلك اعتبر بعض العلماء الكفاءة باليسار والغنى , واستدلوا عليه بما رواه أحمد والنسائي وصححه , و ابن حبان والحاكم من حديث بريدة عن النبي أنه قال : ( إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال ) وما رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححاه من حديث سمرة عن النبي : أنه قال : ( الحسب المال والكرم والتقوى ) والفقهاء يفسرون الحسب بالمجد الموروث .

عن عروة عن عائشة أن بريرة أُعْتِقَتْ وكان زوجها عبدًا فخيرها رسول الله ، ولو كان حرًّا لم يخيرها . رواه مسلم وأبو داود والترمذي ، وهناك روايات أخرى وفيها أنها اختارت الفسخ ، وهو حجة على اعتبار الكفاءة بالحرية ، بل قال الشافعي : ( أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة ) .

فعلم مما تقدم أن السنة مضت باعتبار الكفاءة بالدين والحرية والأخلاق واليسار ، وبهذا أخذ الكثير من العلماء في صدر الإسلام , وزاد أكثر العلماء النسب والصناعة , واستدلوا عليهما بما لا يصح من الأحاديث وبما يصح من القياس ، فإنهم قالوا : إن العلة في اعتبار الكفاءة رفع الضرر والعار ، وقد كانوا يفاخرون بالأنساب ويرون من العار أن تزوج القرشية باهِلِيًّا ، ولا يزالون يَتَعَيَّرون بدناءة الحرفة والصناعة ، والعمدة في ذلك العرف .

وعلم مما أوردناه أن الكفاءة ليست من أمور العبادات ، وإنما هي من مسائل المعاملات التي يحكم فيها العرف ويستدل عليها بالقياس ؛ لأنها تابعة لمصالح الناس ورفع الضرر عنهم , ومدارها على التعيير فكل رجل كفؤ لمن إذا تزوج منهم لا يلحقهم عار بتزويجه بين قومهم ، ولذلك قالوا : إن العالم كفؤ لبنت الشريف والحسيب وإن كان نسبه وضيعًا أو مجهولاً ؛ لأن العلم أشرف الأشياء فلا عار معه مطلقًا ، وإن هذه الكفاءة تختلف باختلاف الزمان والمكان , فرُبَّ رجل يعد كفؤًا لقوم في بلد ولا يعد كفؤًا لأمثالهم في بلد آخر لاختلاف العرف .

أما حكم هذه الكفاءة فهو :وجوب تزويج الخاطب مع تحققها واعتبار الولي عاضلاً للمخطوبة إذا امتنع من التزويج , ولها حينئذ أن تزوج نفسها من الكفؤ بدون رضاه عند الحنفية إن كانت رشيدة , وليس له اعتراض ولا طلب الفسخ ، وعند غيرهم : ترفع الأمر إلى القاضي فيأذن الولي البعيد بالتزويج ؛ إذا كان القريب هو العاضل أو يزوجها هو – في تفصيل معروف في الفقه – وإذا لم يكن الخاطب كفؤًا , وزوَّجها الولي بدون إذنها , أو زوجت نفسها هي بدون إذنه جاز لها على الوجه الأول ، وله على الثاني رفع الأمر للقاضي وطلب الفسخ دفعًا لإيذاء التَّعْيِير إلا أن يسكت الولي حتى تلد فإنه يبطل حينئذ حق الفسخ مراعاة لمصلحة الولد .