كان الفقه في عهد الصحابة من الخلفاء الراشدين يسير على النهج الذي كان موجودا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ،وهو رد الأحكام إلى الكتاب والسنة وروح التشريع ،وتميز أيضًا بظهور الإجماع ،وخاصة في عصر الصاحبين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ،كما ظهر أيضا القياس كنوع من الاجتهاد ،وذلك لظهور بعض الحوداث التي استجدت ،ولم تكن موجودة في العهد النبوي.

وقد جاء في الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف الكويتية ما نصه:

وهذا العهد يتميز بكثرة الأحداث التي جدت بعد عهد النبوة ، لكثرة الفتوحات واختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم التي لها أعراف لم تكن معروفة عند العرب . ولا بد من معرفة حكم الله في هذه الحوادث الجديدة ، لأنه ليس هناك حادثة إلا ولها حكم شرعي . وكان هذا العهد يتميز بوجود صحابة عرفوا بالفقه ، فكان يرجع إليهم إذا نزلت الحوادث . وكان منهم المكثرون للفتيا وهم لا يتجاوزون ثلاثة عشر شخصا . نذكر منهم : عمر وعليا وزيد بن ثابت وعائشة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود إلخ . رضي الله عنهم جميعا . ولو جمعت فتاوى كل واحد منهم لكانت سفرا عظيما . ومنهم المتوسطون كأبي بكر رضي الله عنه . وإنما قل ما نقل عنه عمن جاء بعده لأنه لم تطل حياته بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مات في السنة الثالثة عشرة للهجرة ، وكان همه إطفاء فتنة المرتدين ومانعي الزكاة ثم توجيه الجيوش الإسلامية إلى الروم والفرس ، ومنهم عثمان رضي الله عنه وأبو موسى الأشعري وغيرهم ، بحيث لو جمعت فتاويهم لبلغت كراسة أو كراستين . وهناك من أثر عنه الفتوى في مسألة أو مسألتين أو ثلاث .

وكان منهم من يعتمد في اجتهاده على روح التشريع متى ساعدته النصوص . ويعتبر إمام هذا المذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم تلميذه عبد الله بن مسعود . ومنهم من كان يلتزم الحرفية ، كعبد الله بن عمر رضي الله عنهما . وفي صدر هذا العهد ، وبالتحديد في عهد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما جد مصدر ثالث سوى الكتاب والسنة كان مرجعا لمن جاء بعدهما ، ألا وهو الإجماع ، فقد كان إذا نزلت الحادثة يستدعي الخليفة من عرفوا بالتفقه في الدين ، وكانوا معروفين مشهورين محصورين فيما بينهم ، فيعرض عليهم الأمر ، فإن اتفقوا على رأي كان ذلك إجماعا لا يسوغ لمن جاء بعدهم أن يخالفوه .

ومهما شكك المشككون في حجية الإجماع أو إمكانه فقد وقع ولا سبيل إلى إنكاره ، كإجماعهم على توريث الجدة الصحيحة السدس إذا انفردت ، واشتراك الجدات فيه إذا تعددن ، وكإجماعهم على حرمة تزويج المسلمة للكتابي مع حل تزوج المسلم للكتابية . وكإجماعهم على جمع القرآن في المصاحف ، ولم يكن الأمر كذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من المسائل المجمع عليها .

ودعوى الإجماع بعد عهد الشيخين دعوى تفتقر إلى دليل ، لأن المجتهدين من الصحابة قد انتشروا في الآفاق وتفرقوا في الأمصار ، وغاية ما يستطيع الفقيه أن يقول : لا نعلم في هذه المسألة خلافا .

ومن هنا يتبين أن القول بأن الإمام أحمد بن حنبل أنكر الإجماع قول عار عن الصحة ، فغاية ما نقل عنه أنه قال : من ادعى الإجماع فهو كاذب ، فإنه يريد الإجماع بعد عهد الشيخين .

وفي هذا العهد لم يدون إلا القرآن الكريم أيضا ، وكانت السنة وفتاوى الصحابة في المسائل المستحدثة تنقل حفظا في الصدور ، اللهم إلا أن البعض كان يدون بعض هذه الأمور لنفسه لتكون تذكرة له .

وفي آخر عهد الصحابة أطلت الفتنة بقرنيها بقتل الخليفة ذي النورين عثمان رضي الله عنه ، ثم تلك الأحداث العظام التي وقعت في عهد علي رضي الله عنه ، وكان ما كان من وجود الفرقة التي لا زلنا نكتوي بنارها إلى اليوم . وبدأ بعض المتعصبين يسوغون آراءهم بوضع أحاديث يرفعونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى كبار الصحابة ، ولم يكن هؤلاء المتعصبون من الصحابة بل كانوا من الطبقة التالية الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام .

وفي هذا العهد لم يتأثر الفقه بالقوانين الرومانية أو الفارسية . وإذا كان الصحابة قد اقتبسوا بعض التنظيمات الإدارية ، من هؤلاء أو أولئك ، فليس معنى هذا أنهم خرجوا عن الخط المرسوم ، وهو رد الأحكام إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إما بطريق مباشر ، وإما بطريق الإجماع أو القياس أو الاستصلاح ، فقد أبطل المسلمون أعرافا كانت شائعة في البلاد المفتوحة لأنها تخالف التشريع الإسلامي نصا وروحا.