إن العلم ليس خصماً للإيمان، ولا ضداً له، بل هو ميل يهدي إليه، وقد رأينا كثيراً من العلماء الراسخين المنصفين، هداهم علمهم إلى أن وراء هذا الكون قوة عليا تدبره وتنظمه، وترعى كل شيء فيه بميزان وحسب ومقدار، ذلك أن العالِم أقدر من غيره على استبانة ما في هذا الكون من ترابط وتناسق وإحكام.

يتجلى في كل خلية من خلايا أحيائه:

وفي كل ذرة من ذرات جماداته في خلق السموات والأرض.

في اختلاف الليل والنهار.

في الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس.

فيما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها.

فيما بث الله في الأرض من الدواب والأحياء.

في تصريف الرياح، في السحاب المسخِّر بين السماء والأرض.
ولا عجب أن قرأنا لكثير من علماء الكون -في الطبيعة والفلك، والرياضيات، والأحياء وغيرها- شهادات ناصعة اعترفوا فيها بوجود الله، وصحة الدين، وهي شهادات تقطع ألسنة الذين يريدون أن يتخذوا من العلم سلاحاً يحاربون به الدين.
إن بعض الذين ينتسبون إلى «العلم» يعيشون بعقلية قرن مضى أو قرنين، ولا يتابعون التطور الهائل الذي حدث في ميدان العلم والفكر في هذا القرن، فهم أول من يستحق اسم «الرجعيين» لأنهم سجناء نظريات انقضى عصرها، وذهبت ريحها، وطرحت في زوايا النسيان.

فليسمعوا ما يقول علماء هذا العصر.
يقول الأستاذ «هوشل»:
“كلما اتسع نطاق العلم زادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي، لا حد لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون والرياضيون والفلكيون والطبيعيون قد تعاونوا على تشييد صرح العلم وهو صرح عظمة الله وحده”.
وأفاض «هربرت سبنسر» في هذا المعنى في رسالته في «التربية» إذ يقول:
“العلم يناقض الخرافات، ولكنه لا يناقض الدين نفسه، يوجد في كثير من العلم الطبيعي الشائع روح الزندقة، ولكن العلم الصحيح الذي فات المعلومات السطحية، ورسب في أعماق الحقائق، براء من هذه الروح، العلم الطبيعي لا ينافي الدين، والتوجه إلى العلم الطبيعي عبادة صامتة، واعتراف صامت بنفاسة الأشياء التي نعانيها وندرسها، ثم بقدرة خالقها، فليس ذلك التوجه تسبيحاً شفهياً، بل هو تسبيح عملي، وليس باحترام مدعى، وإنما هو احترام أثمرته تضحية الوقت والتفكير والعمل، وهذا العلم لا يسلك طريق الاستبداد في تفهيم الإنسان استحالة إدراكه كنه السبب الأول وهو «الله»، ولكنه .. ينهج بنا النهج الأوضح في تفهيمنا الاستحالة بإبلاغنا جميع الحدود التي لا يستطاع اجتيازها، ثم يقف بنا في رفق وهوادة عند هذه النهاية، وهو بعد ذلك يرينا .. بكيفية لا تعادل .. صغر العقل الإنساني إزاء ذلك الذي يفوت العقل..”.
ثم أخذ يضرب الأمثلة على ما ذهب إليه فقال:
“إن العالم الذي يرى قطرة الماء، فيعلم أنها تتركب من الأوكسجين والأيدروجين بنسبة خاصة بحيث لو اختلفت هذه النسبة لكانت شيئاً آخر غير الماء، يعتقد عظمة الخالق وقدرته وحكمته، وعلمه الواسع بأشد وأعظم وأقوى من غير العالم الطبيعي الذي لا يرى فيها إلا أنها قطرة ماء فحسب، وكذلك العالم الذي يرى قطعة البَرَد (قطعة الثلج الصغيرة النازلة مطراً) وما فيها من جمال الهندسة، ودقة التصميم، لا شك أنه يشعر بجمال الخالق ودقيق حكمته أكثر من ذلك الذي لا يعلم عنها إلا أنها مطر تجمد من شدة البرد.
وهذا هو الدكتور «دي نوي» الطبيب العالم الذي اشتغل بمباحث التشريح والعلم الطبيعي، يقول:
“كثير من الأذكياء وذوي النية الحسنة يتخيلون أنهم لا يستطيعون الإيمان بالله، لأنهم لا يستطيعون أن يدركوه، على أن الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصور “الله” إلا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصور «الكهرب»، فإن التصور في كلتا الحالتين ناقص وباطل، وليس الكهرب قابلاً للتصور في كيانه المادي وأنه -مع هذا- لأثبت في آثاره من قطعة الخشب” (“عقائد المفكرين في القرن العشرين” للأستاذ العقاد).
وهذا العالم الطبيعي «سر آرثر طومسون» المؤلف الإسكتلندي الشهير يقول:
“إننا في زمن شقت فيه الأرض الصلبة، وفقد فيه الأثير كيانه المادي، فهو أقل الأزمنة صلاحاً للغو في التأويلات المادية” (المرجع السابق).
ويقول في مجموعة «العلم والدين»:
“ليس للعقل المتدين أن يأسف اليوم لأن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة، إذ ليست هذه وجهته، وقد تكون النتيجة أكبر جداً من المقدمة إذا خرج العلماء بالاستنتاج من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة، إلا أننا خلقاء أن نغتبط لأن العلماء الطبيعيين قد يسروا للنـزعة الدينية أن تتنفس في جو العلم حيث لم يكن ذلك يسيراً في أيام آبائنا وأجدادنا. فإذا لم يكن على الطبيعيين أن يبحثوا عن الله -كما زعم مستر «لانجدون دافيز» خطأ في كتابه البديع عن الإنسان وعالمه- فنحن نقرر عن روية أن أعظم خدمة قام بها العلم، أنه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى، ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول: إن العلم أنشأ للإنسان سماءً جديدة وأرضاً جديدة وحفزه من ثم إلى غاية جهده العقلي، فإذا به في كثير من الأحيان لا يجد السلام إلا حيث يتخطى مدى الفهم، وذلك في اليقين والاطمئنان إلى الله” (“عقائد المفكرين في القرن العشرين” للأستاذ العقاد).

وقد حفلت مكتبات العالم -بمختلف اللغات الحية- بكتب قيِّمة، ألَّفها “علماء” راسخون متبحرون، كلها تهدي إلى الله وتدعو إلى الإيمان به.

وحسبنا -مما كتب بالإنجليزية ونقل إلى العربية- كتابان حازا شهرة عالمية واسعة.
أحدهما:
ألَّفه «أ. كريسي موريسون» رئيس أكاديمية العلوم في نيويورك، وعضو المجلس التنفيذي لمركز البحوث القومي في الولايات المتحدة وأحد أقطاب العلوم الكونية في عصرنا، وعنوان كتابه في الأصل «الإنسان لا يقوم وحده »، وقد كتبه رداً على «جوليان هكسلي» في كتابه الإلحادي «الإنسان يقوم وحده» يعني: من غير إله!
وقد ترجم الأستاذ محمود صالح الفلكي كتاب «أ. كريسي موريسون» إلى العربية بعنوان يدل على وجهة العلم في هذا القرن وهو «العلم يدعو للإيمان».
والثاني: كتاب اشترك في تأليفه ثلاثون عالماً من أشهر العلماء المتخصصين في أمريكا. كل واحد منهم كتب فيه مقالاً، بيَّن كيف اهتدى إلى وجود الله والإيمان به، عن طريق علمه واختصاصه، وذلك هو كتاب «الله يتجلى في عصر العلم».

وقد ترجمه إلى العربية الدكتور الدمرداش سرحان (أما اللغة العربية فقد كتبت فيها بحوث ومقالات وكتب شتى منها: (سنن الله في الكائنات) للدكتور محمد أحمد الغمراوي. و (مع الله في السماء) للدكتور أحمد زكي و (قصة الإيمان) للشيخ نديم الجسر. وما كتبه أخيراً الدكتور محمد جمال الدين الفندي والأستاذ عبد الرزاق نوفل، بالإضافة إلى كتابات المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره (الجواهر) والمرحوم الدكتور عبد العزيز (باشا) إسماعيل وغيرهما).