من أركان الإيمان بالله الإيمان بالكتب التي أنزلها الله تعالى إجمالا فيما أجمل، وتفصيلاً فيما فصل ، والصحف الأولى قد وضحها القرآن الكريم بأنها صحف نزلت على اثنين من أولي العزم إبراهيم وموسى ، فالذي ذكره القرآن موجود بمعناه في هذه الصحف دون لفظه ، وقد كانت هذه الصحف مشتملة على عبرات وعظات تدعو إلى الفضيلة وتنزيه النفس .

جاء في الموسوعة الفقهية:

“وأما صحف إبراهيم وداود فقد كانت مواعظ وأمثالا لا أحكام فيها ، فلم يثبت لها حكم الكتب المشتملة على أحكام”.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :

” صحف إبراهيم صحف أنزلها الله تعالى على إبراهيم فيها المواعظ والأحكام” .

يقول الشيخ أحمد الشرباصي ـ أحد علماء الأزهر رحمه الله :
يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ في سورة طه: (أوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحِفِ اْلأُولَى). (الآية : 133). ويقول في سورة الأعلى: (إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحِفِ الأُولَى . صُحِفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى). (الآيتان: 18 ـ 19) كما جاء في سورة النجم: (أمْ لمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحِفِ مُوسَى . وإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى). (النجم: 36 ـ 37).
وفي تفسير آية طه التي تقول بكمالها : (لوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحِفِ اْلأُولَى).

يقول ابن جرير الطبري: ” يقول الله تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون الذين وصف صفتهم في الآيات قبل ذلك: هل يأتينا محمد بآية من ربه، كما أتى قومه صالح بالناقة، وعيسى بإحياء الموتى، وإبراء الأكمهِ والأبْرص . يقول الله جل ثناؤه: أولم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب من أنباء الأمم من قبلهم التي أهلكناهم لمَّا سألوا الآيات، فكفروا بها لمَّا أتتْهم، كيف عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أولئك”؟ ثم ذكر ابن جرير رواية تفيد أن المقصود بالصحف هنا التوراة والإنجيل، كما ذكر رواية أخرى تقول إنها الكتب التي خلت من الأمم التي يمشون في مساكنهم.

وأما الصحف الأولى المذكورة في سورة الأعلى فقد نصَّ القرآن نفسه على أنها صحف إبراهيم وموسى؛ لأنه قال: (إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحِفِ الأُولَى . صُحِفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) أي إن المذكور في هذه السورة أو في القرآن الكريم مذكور بمعناه الإجمالي في الكتب التي أنْزَلَها الله ـ تبارك وتعالى ـ على إبراهيم وموسى قبل أن يَنالها التحريف والتغيير. وليس المراد أن هذه الألفاظ بعينها موجودة في هذه الصحف الأولى، وإنما هو على المعنى، كما ذكر ذلك القرطبي، أي أن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف.

ولقد روى الآجُرِّي أن أبا ذرٍّ ـ رضي الله عنه ـ قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا رسول الله، ماذا كانت صحف إبراهيم؟ فأجاب رسول الله بقوله: “كانت أمثالاً كلها: أيُّها الملك المتسلط المبتلَى المغرور، إني لم أبعثك تجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتُك لترد عني دعوة المظلوم، إني لا أردها وإن كانت من فمِ كافر. وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يُناجي فيها ربَّه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، يفكر فيها في صنع الله ـ عز وجل ـ إليه، وساعة يَخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل ألاَّ يكون ظاعنًا، إلا في ثلاث: تزود لمعاد، ومرمة لمعاش، ولذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مُقبلاً على شأنه، حافظًا للسانه، ومَن عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه”.
ثم قال أبو ذر لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟ فأجاب النبي بقوله: “كانت عِبَرًا كلها: عجبتُ لمن أيقن بالموت كيف يَفرح، وعجبتُ لمن أيقنَ بالقدر كيف يَنْصَبُ، وعجبت لمَن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها وكيف يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم هو لا يعمل”.
ثم قال أبو ذرٍّ للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا رسول الله ، فهل في أيدينا شيء مما كان في يَدَيْ إبراهيم وموسى مما أنزل الله عليك؟ . فأجاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: “نعم” اقرأ يا أبا ذر: (قدْ أفلحَ مَنْ تَزَكَّى . وذَكَرَ اسمَ ربِّهِ فصلَّى . بلْ تُؤثرونَ الحياةَ الدُّنْيَا . والآخِرَةُ خَيْرٌ وأبْقَى . إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحِفِ الأُولَى . صُحِفِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى)
(الأعلى: 14ـ19).

وذكر الإمام الرازي أن أبا ذرٍّ سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: كم أنزل الله من كتاب؟ . فقال النبي: “مائة وأربعةُ كتبٍ: على آدمَ عشرَ صُحفٍ، وعلى شِيثَ خمسينَ صحيفةً، وعلى إدريسَ ثلاثينَ صَحيفةً، وعلى إبراهيمَ عشرَ صحائفَ، والتوراةَ والإنجيلَ والزبورَ والفرقانَ”.