إن حق التحليل والتحريم إنما هو من حق الله وحده لا ينازعه فيه أحد من العباد، يقول تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } وقد كان السلف الصالح يهابون الاجتراء على الفتيا والتصدي لها، وكان من دأبهم أنهم يتحاشون كلمة حرام، ويقولون بدلا عنها : مكروه أو أكره هذا، ولم يطلقوا لفظ التحريم إلا على ما استقر عندهم يقينا أنه حرام.
يقول الشيخ سلمان بن فهد العودة ـ في كتابه (ضوابط للدراسات الفقهية) :
قد نهى الله سبحانه وتعالى عن المسارعة في إصدار أحكام التحليل والتحريم، فقال: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) [النحل: 116].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئًا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهيه”.
ومن منطلق هذا التحذير الإلهي كان السلف رضوان الله عليهم ينقبضون عن الجزم بما لا نص فيه صريحًا، ولا يكثرون من إطلاق عبارات التحليل والتحريم؛ إنما يعبرون عما يشعرون بذلك، دون تصريح بالإيجاب أو المنع.
وهذا كان مئنة [مظنة] فقههم، وورعهم، ومحاسبتهم لأنفسهم، وقد نُقِل هذا عن كثير من السلف، كما قال الأعمش: “ما سمعت إبراهيـم قط يقول: حلال، ولا حرام؛ إنما كان يقـول: كانوا يكرهون، وكانوا يستحبون”
وكان الإمام أحمد رحمه الله يتوقف في كثير من المسائل ويحجم عنها، وإذا أجاب كان يتجنب التصريح ما وسعه ذلك.
ويقول الإمام مالك رحمه الله: “لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدًا أقتدي به؛ يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، وما كانوا يجترؤون على ذلك؛ وإنما كانوا يقولون: نكره هذا، ونرى هذا حسنًا، ونتقي هذا، ولا نرى هذا.. ولا يقولون حلال ولا حرام”.
والآثار في ذلك عن السلف كثيرة.
ولكننا نرى أن إطلاق لفظ التحريم، أو الإباحة، أو نحوهما؛ ينبغي أن يطلق إذا كان الحكم قد دلَّ عليه دليل صحيح صريح، ولم يصرفه عنه صارف، أو ثبت الحكم بالإجماع المنقول نقلاً صحيحًا؛ ولذلك عقب الإمام ابن عبد البر على كلمة الإمام مالك السابقة، بقوله: “معنى قول مالك هذا: أن ما أخذ من العلم رأيًا واستحسانًا؛ لم نقل فيه حلال ولا حرام.