مما لاشك فيه أن التزوير محرم ،وهو من الأمراض التي تفتك بالمجتمع ،فتهز كيانه،وتعمل على إضعافه،وعقوبة المزور في الدنيا يحددها القاضي المسلم ،حسب نوع التزوير،كما أن الذي يشاهد المزور ولا ينصحه لا يعاقب في الدنيا عقوبة المزور،ولكنه في الآخرة ينال نفس عقابه ،لسكوته عن الحق ،وعدم نصحه،والتوبة من التزوير تكون برد المظالم لأهلها،إن كان عالمًا بهم،وعليه أن يجتهد ليصل إليهم ،ويرد إليهم حقوقهم ،فإن لم يعلم ،وكانت الحقوق مادية تبرع بها .
والمزور تسقط عنه أداء العبادات من صلاة وصيام وحج ،ولكنها غير مقبولة عندالله ،وهناك فرق بين إسقاط الفرض ،وبين أن يكون مقبولاً،فقد تسقط فريضة الحج عن الإنسان ،لكنها غير مقبولة عند الله،وقد شدد الله تعالى في التزوير ،وقرنه بالإشراك به،زجرًا لفاعله،وتوبيخًا له .
يقول الدكتور محمد بكر إسماعيل الأستاذ بجامعة الأزهر:
التزوير من أكبر الجرائم إثمًا وأشده خطرًا على الأفراد والمجتمعات، فقد روى البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله ـ ﷺ ـ فقال: “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟” ثلاثًا “الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور وقول الزور” وكان متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سَكَت.
وقد قَرَنَ الله التزوير بالشرك مبالغةً في ذمه والزجر عنه وتشديد الوعيد على فاعله، فقال في سورة الحج: (ذلك ومَنْ يُعَظِّمْ حُرِماتِ اللهِ فهو خيرٌ له عند ربِّه وأُحِلَّتْ لكمُ الأنعامُ إلا ما يُتْلَى عليكم فاجْتَنِبوا الرِّجْسَ مِن الأوثانِ واجْتَنِبوا قولَ الزُّورِ. حُنَفاءَ للهِ غيرَ مُشركينَ به).
والتزوير معناه قَلْبُ الحقائق، وعدم مطابقة الخبر للواقع، والغش في المعاملات، وخداع الغافلين، فهو على أنواع كثيرة ترجع كلها إلى هذه المعاني، فكما يكون التزوير في الأقوال يكون في الأفعال، وهو شر كله على كل حال، لا يجوز العمل به بأي سبب من الأسباب وبأي دافع من الدوافع، حتى ولو كان الإنسان مضطرًّا إليه لتخليص حق أو للنجاة من ظالم ونحو ذلك.
ولكن هناك للمضطر حِيَل محمودة يستطيع أن يلجأ إليها في تخليص حقه أو وقاية نفسه، وهناك مَعاريضُ يستطيع أن يتخلص بها من الكذب والتزوير، وهذه الحيَل والمعاريض تختلف باختلاف الأحوال والظروف والملابسات والأشخاص الذين نتعامل معهم، فلا نستطيع أن نذكرَ هذه الحيلَ والمعاريضَ، ولكن نقول لكل حال مَقال، ولكل ظَرْف ما يناسبه.
وعلى المسلم أن يسألَ اللهَ التوفيقَ والسدادَ في أفعاله وأقواله، وأن يَسْتَلْهِمَ منه الرُّشْدَ فيما يفعل وفيما يَذَر، وعلى الله قَصْد السبيل.
وعقوبة المُزَوِّر في الآخرة شديدة لا يعلم مداها إلا الله.
أما عقوبته الدنيوية فتختلف باختلاف ما يترتب على تزويره من آثار وأضرار، فالقاضي هو الذي يُقَدِّر ما يراه من العقوبات الرادعة له ولأمثاله، فقد يحكم عليه بالسجن مدة تطول أو تَقْصُر، وقد يُغَرِّمه غرامة كبيرة أو صغيرة، وقد يحكم بضربه وتعذيبه أو فصله من العمل، وقد يراه من المفسدين في الأرض لكثرة ما وقع منه من جرائم التزوير، فيحكم عليه بما نَصَّتْ عليه آية المائدة التي نزلت في عقوبة الذين يحاربون الله ورسولَه، ويقطعون الطريقَ على الناس، ويسعون في الأرض فسادًا.
أما حكم مَن يرى التزوير ويسكت، فلا يُعاقَب عقوبة المُزَوِّر في الدنيا إلا إذا ظهر تواطؤُه معه أو تَسَتُّرُه عليه، وهو معه في العمل، وقد رأى منه ذلك، ولم ينصحه أو لم يُبَلِّغْ عنه، فإن للحاكم إذا رآه متواطئًا معه أو متهاونًا فيما يقترفه أن يعاقبَه على هذا الجبن والتستر بما يراه رادعًا له.
أما في الآخرة فإنه يُعاقَب بما يعاقَب به المزوِّر؛ لأنه شريكه في الإثم إذا لم ينصحه “والدين النصيحة” والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات، فإذا نصحه وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فلم يمتثل وجَب عليه أن يزيل المنكَر بالقوة بحسَب طاقته البشرية؛ فيُبَلِّغ عنه أو يُشَهِّر به ليرتدع لقوله ﷺ: “مَن رأى منكم منكَرًا فليغيِّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
واعلم أيها المسلم أن الله ـ عز وجل ـ لا يقبل من المزوِّر صلاة ولا صيامًا ولا صدقة، لكن إذا صلَّى سقط عنه فرضُ الصلاة، وإذا صام سقط عنه فرضُ الصوم، وإذا زكَّى سقطت عنه فريضةُ الزكاة، وإذا حَجَّ سقطت عنه فريضةُ الحج، ولا ثواب له لعدم القبول، فكل مقبول صحيح، وليس كل صحيح مقبول.
واعلم أن جميع الحقوق التي ضاعت على أصحابها بسبب التزوير لَزِم المزوِّرَ أن يُعَوِّضَهم عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وهذا شرط من شروط صحة التوبة، فأركان التوبة خمسة:
(أ) العلم بخطورة الذنب.
(ب) الندم على فعله.
(جـ) العزم على عدم العَوْد إليه.
(د) قضاء ما فاته من الواجبات كالصلاة والصوم والحج.
(هـ) رد المظالم إلى أصحابها.
فإن لم يَعْرِفْ أصحابَها تَصَدَّقَ بها على ذمتهم، وإن لم يجد ما يُعَوِّضُهم به عنها طلب الصفح منهم، فإن لم يعرفهم طلب الصفح من الله، والله ـ عز وجل ـ يَرضَى عنه ويُرضِي عنه خصومَه يوم القيامة إن علم إخلاصَه في التوبة.