الحضانة من الولايات، والغرض منها صيانة المحضون ورعايته، ومسألة تخيير المحضون بين أبيه وأمه مسألة خلافية بين الفقهاء أجازها الشافعية والحنابلة، ومنعها الحنفية والمالكية.
ومن أجازها جعل هذه الإجازة مشروطة بالسلامة من الفساد في الاختيار، لأن الأطفال قد يكون اختيارهم مبنيا على غير المصلحة المعتبرة شرعا، فمثلا قد ترفض البنت أباها لمعرفتها أنه سوف يلزمها بالآداب والتكاليف الشرعية، أمَّا أمها فقد تكون متهاونة معها لا تهتم بتربيتها وتقويمها وتتركها للعب، فعندما تخير البنت ـ في هذه الحال فإنها قد تختار أمها على أبيها، فالاختيار في هذه الحالة غير صحيح، ولا يلزم القاضي أن يعمل به، وعلى القاضي أن يستفسر عن سبب الاختيار ودوافعه ويقدر المصلحة الشرعية فيه.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:
ذهب الشافعية والحنابلة إلى تخيير المحضون بين أبيه وأمه إذا تنازعا فيه على ما يأتي من التفصيل، فيلحق بأيهما اختار. فإن اتفقا على أن يكون المحضون عند أحدهما جاز، وعند الشافعية يبقى التخيير وإن أسقط أحدهما حقه قبل التخيير – خلافا للماوردي والروياني – ولا فرق في التخيير بين الذكر والأنثى.
وعند الحنابلة: يخير الغلام إذا بلغ سبع سنين عاقلا ; لأنها السن التي أمر الشرع فيها بمخاطبته بالصلاة. وحده الشافعية بالتمييز بأن يأكل وحده، ويشرب وحده، ولم يعتبروا بلوغه السابعة حدا، فلو جاوز السبع بلا تمييز بقي عند أمه، ولا فرق في هذا بين الذكر والأنثى. وهذا يخالف في ظاهره ما ورد من أمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وعدم أمره بها قبل أن يبلغها وإن ميز.
والفرق بينهما أن في أمره بالصلاة قبل السبع مشقة، فخفف عنه ذلك. بخلاف الحضانة ; لأن المدار في التخيير على معرفة ما فيه صلاح نفسه وعدمه، فيقيد بالتمييز، وإن لم يجاوز السبع.
وفرق الحنابلة بين الذكر والأنثى، فيخير الصبي إذا بلغ سبع سنين، أما البنت فتكون في حضانة والدها إذا تم لها سبع سنين، حتى سن البلوغ، وبعد البلوغ تكون عند الأب أيضا إلى الزفاف وجوبا، ولو تبرعت الأم بحضانتها ; لأن الغرض من الحضانة الحفظ، والأب أحفظ لها. ولأنها تخطب منه، فوجب أن تكون تحت نظره.
والتخيير في الحضانة مشروط بالسلامة من الفساد، فإذا علم أنه يختار أحدهما ليمكنه من الفساد، ويكره الآخر لما سيلزمه به من أدب، لم يعمل بمقتضى اختياره ; لأنه مبني على الشهوة، فيكون فيه إضاعة له. كما أنه مشروط بأن يظهر للحاكم معرفته بأسباب الاختيار.
ودليل التخيير ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: { جاءت امرأة إلى النبي ﷺ فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة ونفعني، فقال النبي ﷺ: هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به } ” وما ورد من قضاء عمر بذلك. أهـ
أما الحنفية والمالكية فقد رفضوا الأخذ بالتخيير وذلك لقصور عقل المخيَّر في اختيار الأصلح له، فقد يختار من عنده النعمة والمال والرفاهية وبهذا لا يتحقق المقصود من الحضانة وهو النظر في مصالح المحضون.
جاء في الموسعة الفقهية الكويتية:
والعلة في عدم تخيير المحضون عند الحنفية والمالكية هي: قصور عقله الداعي إلى قصور اختياره. فقد يختار من عنده الدعة والتخلية بينه وبين اللعب، فلا يتحقق المقصود من الحضانة وهو النظر في مصالح المحضون. وما ورد من أحاديث تفيد تخيير الطفل، جاء فيها أن اختياره كان لدعاء النبي ﷺ أن يهديه إلى الأصلح. كما جاء في حديث { رافع بن سنان أنه أسلم، وأبت امرأته أن تسلم فقالت: ابنتي وهي فطيم، وقال رافع: ابنتي. فأقعد النبي ﷺ الأم ناحية، والأب ناحية، وأقعد الصبية ناحية وقال لهما: ادعواها فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي ﷺ: اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها }. وجاء في رواية أنه ابنهما وليست بنتهما، ولعلهما قضيتان مختلفتان. كما يحمل ما ورد في تخيير الغلام على أنه كان بالغا، بدليل أنه كان يستسقي من بئر أبي عنبة، ومن يكون دون البلوغ لا يرسل إلى الآبار للخوف عليه من السقوط. أهـ
وإذا كان اختيار الطفل لأحد الأبوين مبنيا على رغبته في اللعب ونفوره من التعلم فإن القاضي يقضي في هذا الشأن بضمه لمن يصلحه.
قال الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد:
متى أخل أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطله والآخر مراع له فهو أحق وأولى به. وسمعت شيخنا رحمه الله يقول: تنازع أبوان صبيا عند بعض الحكام، فخيره بينهما فاختار أباه، فقالت له أمه : سله لأي شيء يختار أباه؟ فسأله، فقال: أمي تبعثني كل يوم للكتاب، والفقيه يضربني ، وأبي يتركني للعب مع الصبيان، فقضى به للأم. قال: أنت أحق به.
قال شيخنا: وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي وأمره الذي أوجبه الله عليه فهو عاص ولا ولاية له عليه بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له بل إما أن ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان.