اختلف الفقهاء حول جواز بول النبي ـ ﷺ ـ قائما فمنهم من منعه ومنهم من أجازه، وما نرجحه هو الجواز إذا أمن المسلم من تطاير الرذاذ ووصوله إلى ثوبه.
هل التبول واقفا حرام:
يقول فضيلة الشيخ عطية صقر ـ رحمه الله ـ في كتابه أحسن الكلام في الفتوى والأحكام:
جاء في “زاد المعاد” لابن القيم “ج 1 ص 43” أن أكثر ما كان يبول النبي ﷺ وهو قاعد، يرتاد لبوله اللين الرخو من الأرض ، وإذا كانت هناك أرض صلبة أخذ عودًا من الأرض فنكت به حتى يثرى، يعنى حتى يكون فيه ثرى ورماد، وقالت عائشة رضي الله عنها: من حدثكم أن النبي ﷺ كان يبول قائمًا فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا قاعدًا .
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة أنه بال قائمًا، فقيل هذا بيان للجواز، وقيل : إنما فعله من وجع كان بمأبضه( باطن ركبتيه) ، وقيل : فعله استشفاء .
قال الشافعي رحمه الله : والعرب تستشفي من وجع الصلب بالبول قائمًا ، والصحيح أنه إنما فعل ذلك تنزهًا وبعدًا من إصابة البول ، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم - وهو ملقى الكناسة ، ويسمى المزبلة وهى تكون مرتفعة - فلو بال فيها الرجل قاعدًا لارتد عليه بوله ، وهو ﷺ استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط ، فلم يكن بد من بوله قائمًا ، والله أعلم .
ثم قال ابن القيم : وقد ذكر الترمذي عن عمر بن الخطاب قال : رآني النبي ﷺ وأنا أبول قائمًا ، فقال ” يا عمر لا تبل قائمًا” فما بلت قائمًا بعد، قال الترمذي : وإنما رفعه عبد الكريم ابن أبى المخارق ، وهو ضعيف عند أهل الحديث .
وفى مسند البزار وغيره من حديث عبد اللّه بن بريدة عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال : ” ثلاث من الجفاء ، أن يبول الرجل قائمًا ، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته ، أو ينفخ فى سجوده ” ورواه الترمذي وقال : هو غير محفوظ ، وقال البزار: لا نعلم من رواه عن عبد اللّه بن بريدة إلا سعيد بن عبيد اللّه ، ولم يجرحه بشيء ، وقال ابن أبى حاتم : هو بصري ثقة مشهور .
فالخلاصة أن التبول من قيام مكروه وليس بحرام ، لما يترتب عليه من خوف التلوث من الرشاش ، واطلاع الغير على العورة . أ . هـ
هل صحيح أن النبي ﷺ بال واقفا:
التوفيق بين حديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ والأحاديث الصحيحة أن النبي ـ ﷺ ـ بال قائما، وأن بعض الصحابة فعلوا ذلك؛ بأن السيدة عائشة تحكي عما كان يحدث في البيت، فهي لم تر الرسول ـ ﷺ ـ يبول قائما، وهذا لا ينفي أنه بال قائما في خارج البيت ولم تره هي ، وإنما رآه بعض الصحابة .
والبول قائما لا يكره إذا أمن الإنسان من وصول الرشاش ( رزاز البول ) إلى ثيابه أو جسده بسبب حركة الهواء أو اصطدام البول بالأرض وارتداده ، خاصة إذا كان القعود شاقا بسبب جرح ، أو عدم وجود مكان للقعود ، أو عدم التمكن من ستر العورة ، كمن يلبس بنطالا مثلا ، أو غير ذلك من الأسباب .
وإن كان بعض العلماء ذهب إلى القول بنسخ التبول قائما ، فمذهبه غير صحيح ، لأن القول بالنسخ لا يجوز إذا أمكن الجمع والتوفيق بين النصوص.
قال الإمام الألباني : أما حديث :( لا تبل قائما ) فهو ضعيف ولا شيء في التبول قائما إذا أمن الرشاش وقد قال الحافظ في الفتح ـ أي : ابن حجر في : فتح الباري ـ : ولم يثبت عن النبي ـ ﷺ ـ في النهي عنه شيء .
وعن نافع عن ابن عمر عن عمر قال ( ما بلت قائما منذ أسلمت ) وإسناده صحيح ومن طريق أخرى عن زيد قال ( رأيت عمر بال قائما ) وإسناده صحيح أيضا ، ولعل هذا وقع من عمر ـ رضي الله عنه ـ بعد قوله المتقدم وبعد ما تبين له أنه لاشيء في البول قائما .
وأخرج البخاري ومسلم عن حذيفة قال : أتى رسول الله ﷺ سباطة (مكان مرتفع يستتر به) قوم فبال قائما ثم دعا بماء فمسح على خفيه ، فذهبت أتباعد فدعاني حتى كنت عند عقبه . وهو حديث صحيح .
وأما ما روي عن عائشة أنها قالت: (من حدثكم أن رسول الله ـ ﷺ ـ بال قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا جالسا). رواه الخمسة إلا أبا داود ، وإسناده صحيح ، لكنه نافٍ ، وحديث حذيفة في الكتاب مثبِت ، ومن المعلوم أن المثبت مقدم على النافي ، لأن معه زيادة علم ، فيجوز الأمران ، والواجب الاحتراز من رشاش البول ، فبأيهما حصل وجب .
وأما الحديث : من الخطأ أن يبول الرجل قائما ، فلا يصح مرفوعا ، وإنما هو موقوف.
(انظر الإرواء، والسلسلة الصحيحة).
وجاء في كتاب (فيض القدير، شرح الجامع الصغير) للإمامِ المناوي :
(نهى ـ ﷺ ـ عن أن يبول الرجل قائماً) فيكره تنزيهاً لا تحريماً وأما بوله قائماً لبيان الجوازأو لكونه لم يجد مكانا يصلح للقعود أو لأن القيام حالة لا يمكن معها خروج الريح بصوت ففعله لكونه كان بقرب الناس أو لأن العرب تستشفي به لوجع القلب فلعله كان به أو لجرح كان بمأبضه ( باطن ركبتيه) فلم يمكنه لأجله القعود أو أن البول عن قيام منسوخ لخبر عائشة: (ما بال قائماً منذ أنزل عليه القرآن)، وخبرها: ( من حدثكم أنه كان يبول قائماً فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعداً).
ولكن قال الإمام ابن حجر ، في (فتح الباري ، شرح صحيح البخاري):
والصواب أنه غير منسوخ وعائشة إنما تعلم ما وقع بالبيوت ، وقد ثبت عن جمع من الصحابة منهم عمر وعلي أنهم بالوا قياماً وهو دال للجواز بغير كراهة إذا أمن الرشاش ولم يثبت في النهي عنه شيء كما بينته.