الإيمان قوة روحية تهذب غرائز النفس، فهو يعصمها من الشهوة، ويضبطها حين تغضب، كما أنه يهذبها فلا تقع في أنانية .

يقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي:

لا ريب أن للغرائز في دفع الإنسان سلطانًا لا ينكر، ولكن المثل العليا التي يعيش لها المؤمن تعلو به على الغرائز وسلطانها لقد أصبح علماء النفس اليوم لا يستحسنون كلمة ” الغرائز ” ويستعملون بدلها ” الدوافع النفسية ” ولكنا آثرنا كلمة الغرائز لشيوعها وظهور معناها لدى جمهور الناس ولا مشاحة في الاصطلاح.

والغريزة الجنسية بخاصة لعلها أعتى الغرائز وأقواها، حتى إن في علماء النفس من فسر بها السلوك البشري كله، مثل ” فرويد ” وهو تفسير حيواني يتجاهل غرائز الإنسان الأخرى، وسائر ملكاته الروحية ودوافعه النفسية – وليس هنا موضع مناقشته.
وفي الشباب تتجلى هذه الغريزة على أشدها، فالشباب شعلة متوهجة لعظم طاقته الحيوية، وقوة دوافعه النفسية، وقلة علمه وتجاربه في الحياة، بجانب أحلامه وخيالاته الكثيرة، فماذا يمنع الشاب الناضر الفتوة، القوى الغريزة أن يقضى شهوة جنسية مع امرأة لا تحل له إذا تيسرت له أسبابها، وتهيأت وسائلها دون خشية من عقاب أو قانون أو أعين الناس؟.

لا شيء يمنع إلا الإيمان.. هذا ما حدث ليوسف عليه السلام: شاب في ريعان الشباب، مكتمل الرجولة، رائع الفتوة، تدعوه إلى نفسها امرأة ذات منصب وجمال، ليست من عامة الناس ولكنها امرأة العزيز الذي هو في بيتها وهو عبدها وخادمها، والأبواب مُغلقة، والسبل ميسرة، كما حكى القرآن الكريم: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) (يوسف: 23).

فماذا كان موقفه أمام هذا الإغراء، وتلك الفتنة التي تخطف الأبصار !.

ألانت قناته فاستسلم وخان عرضًا أؤتمن عليه؟ كلا… إنما قال: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف: 23).

ولقد حاولت المرأة بكيدها ومكرها وبكل ما لديها من ألوان الإغراء والتهديد أن تُذيب من صلابته وتضعضع من شموخه، وأعلنت ذلك لنسوتها في ضيق وغيظ: (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) (يوسف: 32).

ولكن الشاب يوسف اتجه إلى الله يسأله المعونة والعصمة: (قال رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ) (يوسف: 33).

كانت فتنة بين ضمير المؤمن، ومغريات الإثم، ففشلت المغريات وانتصر الإيمان.

والغريزة من شأنها أن تطلب متنفسًا، فإن طال حبسها خيف عليها الانفجار ما لم يحجزها سد الإيمان.

وهذه امرأة يغيب عنها زوجها فترة طويلة من الزمن، فتُخيم عليها كآبة الوحشة، وتهجم عليها هواجس الوحدة، ويثور في عرقها دم الأنوثة، وينطق فيها صوت الغريزة فلا يصده إلا حاجز الإيمان، وفي جنح الليل باتت تنشد:

لقد طال هذا الليل واسود جانبه
وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فو الله لولا الله تُخشى عواقبه
لُحرك من هذا السرير جوانبه

وغريزة المقاتلة التي عبر عنها الأقدمون، بالقوة الغضبية، أو القوة السبعية، والتي تثير الإنسان أن يرد الصاع صاعين، وتدفعه إلى التدمير والانتقام. وبها يبدو كالوحش الهائج، أو الإعصار المدمر. جمرة من النار يُلقيها شيطان الغضب في جوفه فتنتفخ أوداجه، وتحمر عيناه، ويبدو كأن له مخالب وأنيابًا؟
ما الذي يقلم أظافر هذه الغريزة، ويلقى على هذه الجمرة المتقدة ماء الهدوء والسلام؟

إنه الإيمان الذي يحمل المؤمن أن يكظم الغيظ، ويعفو عمن ظلمه، ويحلم على من جهل عليه، ويُحسن إلى من أساء إليه، ويجعله يحس في مرارة جرعة الغيظ، حلاوة يجدها في صدره.

وقد قص علينا القرآن قصة ابني آدم بالحق: (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ) (المائدة: 27)… فما كان من ابن آدم الشرير إلا أن قال لأخيه: (لأَقْتُلَنَّكَ) (المائدة: 27)… قال المؤمن الصالح: (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة: 27 – 28)….

خوف الله إذن هو الذي يكف الأيدي أن تمتد بالأذى، وإن التهبت الغريزة، ودفعت إلى العدوان، وقد قال عمر: ” من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون” .

وكلم رجل يومًا عمر بن عبد العزيز، فأساء إليه حتى أغضبه – وهو أمير المؤمنين – فَهَم به عمر، ثم أمسك نفسه وقال للرجل: أردتَ أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غدًا؟ – أي في الآخرة – قم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك.

الإيمان ينتصر على الأنانية:

وغريزة الأنانية أو حب الذات غريزة عاتية جبارة، لا يكاد يخلو بشر من سلطانها عليه، وقوة دفعها له، وتوجيهها لسلوكه. وإنك لترى الناس تدفعهم الأنانية إلى التنافس على الدنيا ومتاعها، ويدفعهم التنافس إلى التنازع والاختصام، ويدفعهم ذلك إلى ادعاء ما ليس لهم، وجحود ما عليهم من حق، وأكل أموال الناس بالباطل، وعندما يطل شيطان الخصومة برأسه لا يكون إلا حب الغلب بأي ثمن، وأية وسيلة.

ولكن عنصر الإيمان إذا دخل المعركة أطفأ لهب الخصومة، فصارت نارها بردًا وسلامًا، وحطم طغيان الأنانية فاستحالت تسامحًا وإيثارًا، وحلق بالمؤمن من المتاع الأدنى إلى المثل الأعلى.

وفي القصة التي روتها أم سلمة زوج الرسول مثل واضح على مبلغ أثر الإيمان: رجلان يختصمان في مواريث وليس لهما بينة إلا دعواهما، كلاهما يقول: هذا حقي، وينكر على صاحبه أن يكون له حق.. ويحتكم الرجلان إلى رسول الله وفي صدر كل منهما فرديته وأنانيته، فيصدع الرسول آذانهما وقلبيهما بهذه الكلمات الحية: ” إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقطع له قطعه من النار”.

سمع الرجلان المختصمان هذه الكلمات الهادرة، فلمست أوتار الإيمان من صدريهما، وأيقظت فيهما خشية الله والدار الآخرة، فبكى الرجلان، وقال كل منهما لصاحبه: حقي لك !.

فقال النبي : ” أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق، ثم استهما. ثم تحالا ” (القصة في كتاب ” الأقضية ” من سنن أبي داود) (أي ليحل كل منكما صاحبه وليسامحه فيما عسى أن يكون حقه).

هنا كانت كلمة الإيمان، وكلمة الضمير الذي أيقظه الإيمان، هي القول الفصل، والقضاء العدل في قضية يعجز القانون المجرد، والقضاء الظاهر، عن معرفة الحق فيها ما دام الطرفان متنازعين، ولا بينة لأحدهما.

وقد قص النبي على أصحابه قصة رجلين مؤمنين، ضربهما مثلاً لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العفاف والزهد والإيثار، قال:

(اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال للذي اشترى العقار منه: خذ ذهبك عني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب.
فقال الآخر: إنما بعتك الأرض وما فيها !.
قال : فتحاكما إلى رجل… فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟.
فقال أحدهما: لي غلام؟.
وقال الآخر: لي جارية.
فقال الحكم: ” أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسكم منه وتصدقًا ” (القصة رواها مسلم في صحيحه).

وهكذا يرى الناس لونا ممتازًا من النفوس: رجلان وأمامهما جرة فيها ذهب لا يتقاتلان عليها. ولن يتدافعانها، يقول كل منهما لصاحبه: هي لك.. على حين نرى الإنسان دائمًا يقول: هذا لي !!.