كان النبي خبيرا بأحوال بني آدم ومعادنهم من حيث النفاسة والوضاعة والخسة، كما كان بصيرا بأحوال القلوب والأرواح التي تسكن بين جوانح الناس، فعلمنا من ذلك كله ما ينفعنا في الدنيا والآخرة؛ لنحسن اختيار الناس والتعامل معهم، كل بحسب حاله.
وجاء في الجامع الكبير للسيوطي أن هذا الحديث رواه البخاري عن عائشة مرفوعًا إلى النبيّ ـ ـ ، ورواه أيضًا مسلم وأحمد.
وجاء في تخريج العراقي لأحاديث “إحياء علوم الدين” أن البخاري ذكره تعليقًا عن عائشة، أي لم يذكر له سندًا، وأن مسلمًا رواه عن أبي هريرة، وأورد الغزالي مناسبته في حديث أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده فقال: رُوِيَ أن امرأة بمكّة كانت تُضْحِك النّساء وكانت بالمدينة أخرى، فنزلت المَكّية على المَدنيّة، فدخلت على عائشة فأضحَكَتها فقالت: أين نزلت؟ فذكرت لها صاحبتَها. فقالت عائشة: صدق الله ورسوله، سمعت رسول الله يقول: “الأرواحُ جُنود مُجَنّدة…” ويراجع توضيح ذلك في الإحياء” ج 2 ص 142″ طبعة عثمان خليفة.

معنى حديث الأرواح جنود مجندة

في الحديث دلالة كما قال : الأرواح جنود مجندة على أن الناس أصناف مصنفة، أي أقسام:

هذا مؤمن، وهذا منافق، وهذا مخلوطٌ، قلبه مُشوش، وهذا يغلب عليه كذا، وهذا يغلب عليه كذا، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، أي فما تعارف منها على شيء اتفقا عليه، ائتلفا عليه، فمن تعارف على الإيمان والهدى والمحبة في الله تآلفت القلوب، ولو تباعدت الأقطار، وما تناكر منها اختلف بحسب عقائدها، وما تنطوي عليه من الأسرار والمقاصد، فالمحبة في الله والعمل الصالح يجمع الأرواح وإن تباعدت، والكفر والمعاصي والبدع والأهواء تجمع وإن تباعدت.

ففي الحديث أنَّ «الأرواح جُنودٌ مُجَنَّدةٌ»، أي: جُموعٌ مُجتَمِعةٌ، أو أنواعٌ مُختَلِفةٌ، «فما تَعارَفَ منها» بأنْ توافَقَت في الأخلاقِ والصِّفاتِ، وَقَعَت بيْنها الأُلفةُ والاجتِماعُ في هَذِه الدُّنيا، وجَمَعَها الصُّحبةُ والوُدُّ، وأعانتْ بَعضَها على هُمومِ الدُّنيا. «وما تَناكَرَ منها»: بمَعنى: تَنافَرَ في عالَمِ الأرواحِ، ولم يَتشابَهْ ويَتوافَقْ ويَتناسَبْ، «اختَلَفَ» في هذه الدُّنيا، وإنْ تَقارَبتْ جَسَدًا؛

ما يسفاد من الحديث:

1 – فضْلُ التَّقْوى والعمَلِ الصَّالحِ والفِقهِ في الدِّينِ.
2 – أنَّ طِيبَ النَّسَبِ مُعتبَرٌ في رفْعِ مَنزِلةِ الرَّجلِ إذا كان مُؤمِنًا تَقيًّا فَقيهًا.
3 – أنَّ الإِنسانَ إِذا وَجَدَ مِن نَفسِه نُفرةً عنْ ذي فَضلٍ وصَلاحٍ، فَعليهِ أنْ يَبحَثَ عنِ المُقتضي لذلكَ؛ لِيَسعَى في إزالتِه، فيَتخلَّصَ مِنَ الوَصفِ المَذمومِ، وكَذا عَكسُه.