السنة النبوية أصل من أصول الشرع، بل هي الأصل الثاني، وتستقل السنة النبوية بالتشريع، فكثير من الأحكام ثبت عن طريق السنة، ومنكر حجية السنة النبوية لا حظ له في الإسلام، ومن أنكر حجيتها في بعض الجوانب كمن أنكر حجية خبر الواحد في العقيدة أو في الأحكام، فقوله شاذ مردود، لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وإذا تقرر أن السنة حجة فقد ثبت في الحديث الصحيح المتواتر عن رسول الله ﷺ أنه قال: (لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) متفق عليه.
يقول الدكتور حسام عفانه –أستاذ الفقه وأصوله- بجامعة القدس بفلسطين-:
مما يؤسف له أن بعض المؤتمنين على تدريس العلم الشرعي قد خانوا الأمانة، وصاروا يكررون شبهات المستشرقين وغيرهم من أعداء الإسلام، ويسيرون خلف كل ناعق، ويضربون بالحقائق الثابتة عرض الحائط، ومن ضمن تلك الشبهات الساقطة إنكار حجية السنة النبوية، وأنها لا تستقل بالتشريع، ويزعم هؤلاء أن الإسلام هو القرآن فقط، فلا سنة ولا إجماع ولا قياس، ويردّون أقوال الصحابة جملة وتفصيلاً، وغير ذلك من الترهات التي يرددها أفراخ المستشرقين، ولا شك لديَّ أن من يقول بذلك فإنه سائر في طريق الزندقة، فإن علماء الأمة قديماً وحديثاً متفقون على حجية السنة النبوية، وأنها أصل عظيم من أصول الإسلام، وقد قامت على ذلك عشرات الأدلة الصحيحة على إثبات ذلك.
قال الإمام الشوكاني: [إن ثبوت حجية السنة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام] إرشاد الفحول ص 33.
وقال أيوب السختياني: [إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا من القرآن، فاعلم أنه ضال مضل] الكفاية في علم الرواية1/28.
وقد بين علماء الأصول حجية السنة أوضح بيان وذكروا النصوص من كتاب الله عز وجل التي تدل على ذلك فمنها:
– قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} سورة الحشر الآية 7.
– وقوله تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} سورة آل عمران الآية 32. وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة النور الآية 63.
– وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} سورة الأحزاب الآية 36.
– وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} سورة النساء الآية 65.
– وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.
– وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} سورة النحل الآية 44.
وقد ذكر أهل العلم أن من دلائل نبوة سيدنا محمد ﷺ ما أخبر به في بعض الأحاديث أنه سيأتي أقوام ينكرون حجية السنة النبوية، وأنهم لا يقبلون إلا ما ورد في القرآن الكريم، فقد ورد في الحديث عن أبي رافع رضي الله عنه عن النبي ﷺ: (قال لا أُلفينَ أحدَكم متكئاً على أريكته – السرير – يأتيه أمرٌ مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) رواه الترمذي ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، وقال العلامة الألباني: صحيح.
ورواه الترمذي أيضاً عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:( ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما حرم رسول الله ﷺ كما حرم الله) ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقال العلامة الألباني: صحيح.
ورواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال:(ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه لا يوشك رجلٌ شبعانٌ على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلوه وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرِّموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع…) وقال العلامة الألباني: صحيح، والحديث رواه أيضاً الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
قال الإمام الخطابي في شرح الحديث: [… يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله ﷺ مما ليس له ذكر في القرآن على ما ذهب إليه الخوارج والروافض من الفرق الضالة فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا … وفي الحديث دليل على أن لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب وأنه مهما ثبت عن رسول الله ﷺ شيءٌ كان حجة بنفسه] معالم السنن 4/276.
وهذه الفرية عرفت قديماً فقد روى الخطيب البغدادي بسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه كان جالساً ومعه أصحابه يحدثهم، فقال رجل من القوم لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له عمران بن حصين: ادنه- اقترب -، فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ في اثنتين، أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بالصفا والمروة ثم قال: أي قوم، خذوا عنا فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلن.
وفي رواية أخرى: أن رجلاً قال لعمران بن حصين: ما هذه الأحاديث التي تحدثونها وتركتم القرآن؟ قال: أرأيت لو أبيت أنت وأصحابك إلا القرآن، من أين كنت تعلم أن صلاة الظهر عدتها كذا وكذا، وصلاة العصر عدتها كذا، وحين وقتها كذا، وصلاة المغرب كذا، والموقف بعرفة، ورمي الجمار كذا، واليد من أين تقطع، أمن هنا أم هاهنا أم من هاهنا، ووضع يده على مفصل الكف، ووضع يده عند المرفق، ووضع يده عند المنكب، اتبعوا حديثنا ما حدثناكم وإلا والله ضللتم.] الكفاية في علم الرواية1/28.
إذا تقرر أن السنة حجة لا شك فيها، فقد ثبت في الحديث الصحيح المتواتر عن رسول الله ﷺ أنه قال: (لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أهل الحديث، وهذا الحديث متواتر رواه عن النبي ﷺ عدد من الصحابة فقد رواه أبو هريرة رضي الله عنه وقد ورد عنه من أكثر من سبع طرق صحيحة، وللحديث شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة منهم جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وابن عمرو وأبو سعيد وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وقد فصلَّ الكلام على هذه الطرق والشواهد العلامة الألباني في إرواء الغليل 6/288-291.
وقد اتفق أهل العلم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها.
قال الإمام أبو زرعة العراقي بعد أن ذكر الحديث محل السؤال: [فيه تحريم الجمع في النكاح بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها وهو مجمع على تحريمه, كما حكاه ابن المنذر وابن عبد البر والنووي وغيرهم.
وقال الشافعي رضي الله عنه: هو قول من لقيت من المفتين لا اختلاف بينهم فيما علمته. حكاه عنه البيهقي في المعرفة.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على القول به – حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها- وليس فيه بحمد الله اختلاف إلا أن بعض أهل البدع ممن لا تعد مخالفته خلافاً وهو الرافضة والخوارج لم يحرموا ذلك، ولم يقولوا بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي ما روى أبو هريرة قال: (قال رسول الله ﷺ:لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها) متفق عليه، وفي رواية أبي داود: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها لا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى
ولأن العلة في تحريم الجمع بين الأختين إيقاع العداوة بين الأقارب وإفضاؤه إلى قطيعة الرحم المحرم وهذا موجود فيما ذكرنا، فإن احتجوا بعموم قوله سبحانه:{ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} خصصناه بما رويناه، وبلغنا أن رجلين من الخوارج أتيا عمر بن عبد العزيز فكان مما أنكرا عليه رجم الزاني وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، وقالا ليس هذا في كتاب الله تعالى، فقال لهما: كم فرض الله عليكم من الصلاة ؟ قالا خمس صلوات في اليوم والليلة وسألهما عن عدد ركعاتها فأخبراه بذلك وسألهما عن مقدار الزكاة ونصبها فأخبراه، فقال فهل تجدان ذلك في كتاب الله ؟ قالا: لا نجده في كتاب الله، قال فمن أين صرتما إلى ذلك ؟ قالا فعله رسول الله ﷺ والمسلمون بعده، قال فكذلك هذا …] المغني7/115.
ومع اتفاق أهل العلم قديماً وحديثاً على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وعلى صحة الأحاديث في ذلك إلا أنه قد وجد من شذاذ الآفاق من قال بإباحة الجمع بينهما كما ذكر السائل، وكما قال أحد القرآنيين وهو المدعو أحمد صبحي منصور، تحت عنوان “الدين السني والتشريع بما لم يأذن به الله جل وعلا ” قال: [ … ولكن الفقهاء أعملوا القياس فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها قياساً على حرمة الجمع بين المرأة وأختها، وحرموا الخالة والعمة من الرضاع قياساً على تحريم الأم من الرضاع والأخت من الرضاع، ثم صاغوا في ذلك أحاديث هي أشبه بمتون الفقه وأحكام الفقهاء فقالوا “يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب” وقالوا “لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها”. وهنا يقع التناقص مع كتاب الله. فإذا أراد رجل أن يتزوج عمة زوجته أجاز له القرآن ذلك لأن عمة الزوجة ليست من المحرمات في نص القرآن ولأنها تدخل في الحلال من النساء للزواج ضمن قوله تعالى { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} ولكن الفقه السني يجعل ذلك الحلال القرآني حراماً. وإذا أراد رجل أن يتزوج خالته من الرضاع أحلها له القرآن وحرمها عليه الفقه..!! وذلك يعني بوضوح أنهم يحرمون ما أحل الله وينسبون ذلك للرسول، والرسول عليه السلام بريء من ذلك..] عن الإنترنت. إلى غير ذلك من الأباطيل والترهات.
وخلاصة الأمر أن السنة النبوية أصل من أصول الشرع، بل هي الأصل الثاني، وأن السنة النبوية تستقل بالتشريع، وهنالك عشرات بل مئات الأحكام التي شرعها الرسول ﷺ ولم يرد لها ذكر في القرآن الكريم، وأن منكر حجية السنة النبوية لا حظ له في الإسلام، وأن من أنكر حجيتها في بعض الجوانب كمن أنكر حجية خبر الواحد في العقيدة أو في الأحكام، فقوله شاذ مردود، لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وأن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها مما اتفق عليه من يعتد بقوله من علماء الإسلام.