كان القرآن مجموعًا شفاهًا في صدور الصحابة في حياة الرسول ،‏ بل كان مكتوبًا عندهم على صفائح الحجارة وأصول السعف الغلاظ وغيرها ،‏ ولم يفكر الصحابة في جمع القرآن مباشرة بين دفتي كتاب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ شغلتهم حركة الارتداد التي وقعت وما أعقبها من الحرب ،‏ ثم إنهم كانوا مطمئنين إلى أن القرآن لا خوف عليه ،‏ لأن قراء القرآن وحفظته كانوا كثيرين ،‏ والقرآن نفسه مكتوب ومحفوظ في بيوت أمهات المؤمنين .‏

لكن معركة اليمامة التي سقط فيها ألف شهيد بينهم نحو من أربعمائة وخمسين صحابيا من حفظة القرآن أمر اهتم له عمر بن الخطاب -‏ وهو أحد كتاب الوحي -‏ فمضى إلى أبي بكر يطالبه بجمع القرآن ،‏ ويظل به حتى يشرح الله صدره فيرسل إلى زيد بن ثابت أحد كتاب الوحي ويكلفه بهذه المهمة ويقول له :‏ إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه .‏
وكان قرار أبي بكر بجمع القرآن بين دفتي كتاب أعظم قرار في تاريخ الدعوة والأمة ،‏ حفظ لها دستورها ،‏تحقيقا لوعد الله تعالى بحفظه، ويقول عنه علي -‏ رضى الله عنه -‏ أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر -‏ رحمه الله -‏ هو أول من جمع بين اللوحين .‏

وحرصًا على ألا يكتب إلا ما هو صحيح تماما، فإن أبا بكر لم يترك الأمر لزيد وحده ، بل أشرك معه عمر، وكلفهما أن يستوثقا مما يأتيهما ،‏ فقال لعمر ولزيد :‏ اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه .‏ والروايات التاريخية تضيف إلى عمر بن الخطاب وزيد في مهمة جمع القرآن -‏ وهما من كتاب الوحي -‏ أسماء :‏ سالم بن معقل ،‏ وأبي بن كعب .‏ والمنهج الذى اتبعه زيد بن ثابت ومعاونوه في جمع القرآن قد قال عنه الدكتور هيكل :‏ نستطيع أن نقول دون تردد : أنه اتبع طريقة التحقيق العلمي المألوفة في عهدنا الحاضر ،‏ وقد اتبع هذه الطريقة بدقة دونها كل دقة .

وأتم زيد ومعاونوه جمع النص القرآني ،‏ ثم أودعت الصحف عند أبي بكر حياته ،‏ ثم عند عمر حياته ،‏ ثم عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين .‏ وفي عهد عثمان -‏ رضي الله عنه -‏ وعلى التحديد عام ثلاثين للهجرة أخذت مهمة تعليم القرآن التي كانت موكولة إلى القراء تتعرض لخطر اختلاف القراءات باختلاف القراء المعلمين وقول كل منهم إن قراءته هي الأدق ، ومضى حذيفة بن اليمان الذي كان رفيق سعيد بن العاص في فتح أذربيجان وأعلن عن تخوفه من أن يختلف الناس على القرآن ، وأنه سيذهب إلى الخليفة عثمان ليعرض عليه الأمر .‏و مضى حذيفة إلى عثمان فأخبره بما رأى وهو يقول :‏ أنا النذير العريان، فأدركوا الأمة .‏

واستجابة للنذير العريان حذيفة قرر عثمان نسخ مصحف أمام فأرسل إلى حفصة يطلب منها المصاحف التي كان قد نسخها أبو بكر فأرسلتها ،‏ وأمر زيدًا ليقوم بالمهمة التي قام بها أيام أبي بكر ،‏ وضم إليه عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص ،‏ وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ،‏ وقال لهم ،‏ إذا اختلفتم فاكتبوه بلسان قريش ففعلوا .‏ فلما نسخوا المصحف رد عثمان إلى حفصة نسختها ،‏ وأرسل إلى كل أفق بمصحف وحرق ما سوى ذلك .

وما فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه كان محل الرضى من الأمة ، وكان عمل عثمان -‏ رضى الله عنه – محل إجماع الأمة حتى قال علي -‏ رضى الله عنه -‏ لما قدم الكوفة فقام رجل فعاب عمل عثمان، فإذا علي رضي الله عنه يقول : اسكت ، فعن ملأ منا فعل ذلك ولو وليت منه ما ولى عثمان لسلكت سبيله .‏

دار الإفتاء بالأزهر