قبل أن نبين أثر الكذب على الوضوء نبين حكم الكذب نفسه ، فالأصل أن الكذب حرام لا يجوز، وقد رخص الإسلام الكذب في حالات ثلاث هي:
1-الكذب في الحرب.
2-الكذب على المتخاصمين للإصلاح بينهما.
3-كذب الزوج على زوجته يمدحها ويمدح طعامها مثلا مع أن الحال على غير ذلك.
وإن كان لا بد فيمكن للمسلم أن يستخدم المعاريض.
وأما عن أثر الكذب على الوضوء فإنه لا ينقض الوضوء بإجماع المسلمين، ولكن يستحب الوضوء منه بغير إيجاب، وعلى المسلم أن يحرص على أن لا يقع في الكذب بحال كما بينا.
جاء في كتاب المغني لابن قدامة :
“وقال ابن المنذر : أجمع من نحفظ قوله من علماء الأمصار على أن القذف , وقول الزور , والكذب , والغيبة لا توجب طهارة , ولا تنقض وضوءا , وقد روينا عن غير واحد من الأوائل أنهم أمروا بالوضوء من الكلام الخبيث , وذلك استحباب عندنا ممن أمر به , ولا نعلم حجة توجب وضوءا في شيء من الكلام , وقد ثبت أن رسول الله ﷺ قال : { من حلف باللاتي والعزى فليقل : لا إله إلا الله } . ولم يأمر في ذلك بوضوء . ” انتهى.
ويقول الشيخ عطية صقر من كبار علماء الأزهر عن التورية وضوابطها :-
تحدث العلماء عما يسمى بالتعريض والتورية، ومعناهما أن يطلق الإنسان لفظا يحتمل معنيين ، يكون ظاهرا فى واحد منهما ويريد هو المعنى الآخر، وهو نوع من الكذب فيه تغرير وخداع.
يقول النووى فى كتابه “الأذكار” ص 380 فى بيان حكمه :
قال العلماء: فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب . أو دعت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب فلا بأس بالتعريض . فإن لم تدع إليه مصلحة ولا حاجة فهو مكروه وليس بحرام ، فإن توصل به إلى أخذ باطل أو دفع حق فيصير حينئذ حراما ، وهذا ضابط الباب . ثم ذكر للتنفير منه حديثا رواه أبو داود بإسناد فيه ضعف . لكن سكت عنه أبو داود فلم يحكم بضعفه فيقتضى أن يكون حسنا عنده ، وهذا الحديث عن سفيان بن أسيد-بفتح الهمزة - رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول “كبرت خيانة أن تحدِّث أخاك حديثا هو لك به مصدِّق وأنت به كاذب” .
ثم ذكر مثالا للتعريض المباح قاله النخعى رحمه الله ، وهو إذا بلغ الرجل عنك شىء قلته فقل : الله يعلم ما قلت من ذلك من شىء فيتوهم السامع النفى المأخوذ من قوله : ما قلت من ذلك من شىء ومقصودك أن الله يعلم ما قلته وقال النخعى أيضا : لا تقل لابنك : أشترى لك سكرا ، بل قل . أرأيت لو اشتريت لك سكرا؟ وكان النخعى إذا طلبه رجل قال للجارية : قولى له : اطلبه فى المسجد، وكان الشعبى يخط دائرة ويقول للجارية : إذا طلبنى أحد فضعى إصبعك فى الدائرة وقولى : ليس هو هاهنا ، ومثل هذا قول الناس فى العادة لمن دعاه إلى الطعام : أنا على نية ، موهما أنه صائم ، ومقصوده على نية ترك الأكل .
ويقول النووى :
لو حلف على شىء من هذا وورَّى فى يمينه لم يحنث ، سواء حلف بالله تعالى أو حلف بالطلاق أو غيره ، فلا يقع عليه طلاق ولا غيره ، وهذا إذا لم يحلِّفه القاضى فى دعوى ، فإن حلفه القاضى فى دعوى فالاعتبار بنية القاضى إذا حلفه بالله تعالى ، فإن حلفه بالطلاق فالاعتبار بنية الحالف ، لأنه لا يجوز للقاضى تحليفه بالطلاق ، فهو كغيره من الناس .
والإمام الغزالى فى كتابه “إحياء علوم الدين “ج 3 ص 117 تحدث عن الكذب والأحوال التى يرخص فيها بالكذب الذى قد يكون واجبا إذا ترتب عليه نجاة مسلم من قتل عدو له ، مقررا هذه القاعدة : الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق وبالكذب جميعا فالكذب فيه حرام ، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحا وواجب إن كان المقصود واجبا .
بعد ذلك حذر الغزالى من الكذب بالمعاريض ، فنقل عن السلف قولهم :
إن فى المعارض مندوجة عن الكذب ، ونقل عن عمر رضى الله عنه قوله : أما فى المعاريض ما يكفى الرجل عن الكذب ؟ وروى ذلك عن ابن عباس وغيره ، وأجازه فقط عند الضرورة ، فإذا لم تكن حاجة أو ضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا، ولكن التعريض أهون . .
وذكر الغزالى أمثلة على جواز التعريض منها ما نقله النووى فيما سبق ، ثم ذكر من الأمثلة قول النبى لامرأة عجوز “لا يدخل الجنة عجوز” فبكت فبين لها أنها لا تكون عند دخول الجنة عجوزا، وتلا قوله تعالى{إنا أنشأناهن إنشاء . فجعلناهن أبكارا . عربا أترابا} : الواقعة 35-37 . وهذا الحديث مرسل ذكره الترمذى فى الشمائل وأسنده ابن الجوزى بسند ضعيف ومثله قول امرأة له: احملنى على بعير، فقال “بل نحملك على ابن البعير” فقالت : ما أصنع به ؟ إنه لا يحملنى، فقال ،ما من بعير إلا وهو ابن بعير” رواه أبو داود والترمذى وصححه عن أنس بلفظ “أنا حاملك على ولد الناقة” .
والقرطبى فى تفسيره “ج 10 ص 190 ” ذكر ما نقله النووى عن الغزالى ، وذكر ابن عبد ربه فى كتابه “العقد الفريد”ج 1 ص 254 طبعة 1316 هـ أن الله كنى عن الجماع بالملامسة وعن الحدث بالغائط ، وعن البرص بقوله لموسى{واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء} القصص : 32 .