جوَّز بعض العلماء أن يضع الحالف يده على المصحف حال الحلف تغليظاً لليمين، وتغليظ الأيمان جائز، ويكون التغليظ بالزمان كالحلف بعد العصر وبالمكان كالحلف عند المنبر، وبالصيغة وأيضا بوضع اليد على المصحف، على أن وضع الحالف يده عند القسم على المصحف ليس بلازم لصحة القسم، وإنما يجوز من باب تغليظ اليمين ليتهيب الحالف ويحترز عن الكذب .
يقول فضيلة الشيخ حسام الدين عفانة ـ أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين-:
لا يشترط لصحة حلف اليمين بالله تعالى أن يضع الحالف يده على المصحف ، فإن اليمين المشروع يكون بمجرد التلفظ باليمين فقط .
ومن العلماء من يرى أن وضع اليد على المصحف أو وضع المصحف أمام الحالف أو في حجره ، من باب تغليظ اليمين على الحالف ، وتغليظ اليمين قال به جمهور الفقهاء ويكون ذلك في القضايا المهمة كقضايا الدماء والأموال الكثيرة ونحوها .
وتغليظ الأيمان له أصل مشروع في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ . أما من كتاب الله فقوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الآثِمِينَ ) سورة المائدة /106 .
قال القرطبي: ” هذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان ” أهـ
وتغليظ اليمين يكون بأمور :
منها التغليظ في الزمان ومنه الحلف بعد صلاة العصر ، وهو المذكور في الآية كما قال المفسرون .
قال القرطبي : ” قوله تعالى ( من بعد الصلاة ) يريد صلاة العصر ، قاله الأكثر من العلماء ، لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة ” أهـ
وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل ، ورجل بايع رجلاً بسلعةٍ ، لا يبايعه إلا للدنيا ، فإن أعطاه ما يريد وفّى وإلا لم يف له، ورجل ساوم رجلاً بسلعةٍ بعد العصر ، فحلف بالله لقد أعطى كذا وكذا فأخذها ) رواه البخاري ومسلم .
قال الحافظ ابن حجر: ” قال المهلب: إنما خص النبي ﷺ هذا الوقت بتعظيم الإثم على من حلف فيه كاذباً لشهود ملائكة الليل والنهار ذلك الوقت ، انتهى . وفيه نظر لأن بعد صلاة الصبح يشاركه في شهود الملائكة ولم يأت فيه ما أتى في وقت العصر ويمكن أن يكون اختص بذلك لكونه وقت ارتفاع الأعمال ” أهـ
ونقل الحافظ ابن حجر عن الخطابي قوله: ” خُص وقت العصر بتعظيم الإثم فيه وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة في كل وقت، لأن الله عظم شأن هذا الوقت بأن جعل الملائكة تجتمع فيه ، وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها ، فغلظت العقوبة فيه لئلا يقدم عليها تجرؤاً ، فإن من تجرأ عليها فيه، إعتادها في غيره، وكان السلف يحلفون بعد العصر ، وجاء ذلك في الحديث أيضاً ” أهـ
ومنها التغليظ في المكان ، كالمسجد والمنبر ، فقد ورد في الحديث ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال : (لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ، ولو على سواك أخضر ، إلا تبوأ مقعده من النار ) رواه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم كما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح .
وورد في الحديث عن أبي أمامة بن ثعلبة أن النبي ﷺ قال : (من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئٍ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) رواه النسائي ، ورجاله ثقات ، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح .
ويرى الشافعية والمالكية، أن اليمين المغلظة ، تكون في مكة المكرمة بين الركن والمقام وفي المدينة المنورة عند قبر النبي ﷺ ، وفي بقية البلاد تكون في المسجد عند المنبر ، قياساً على العمل من الخلف والسلف بالمدينة عند قبر النبي ﷺ ، كما قال ابن عبد البر في الإستذكار .
ومنها التغليظ في حال الحالف ، كأن يكون قائماً مستقبل القبلة .
ومنها التغليظ في اللفظ ، كأن يقول الحالف: أقسم بالله الذي لا إله إلا هو ، ما له عندي حق ، أو يقول: أحلف بالله الذي لا إله إلا هو ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ونحو ذلك .
ومن هذا الباب ذكر بعض فقهاء الشافعية الحلف بالمصحف ، ونُقل عن بعض السلف التحليف على المصحف . ولكن الصحيح أن الحلف على المصحف لم يثبت عن النبي ﷺ بل هو بدعة كما قال ابن العربي المالكي: ” وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة ” أهـ
وقال ابن المنذر: “وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف الشريف ” أهـ
وقال ابن قدامة: ” قال ابن المنذر: ولم نجد أحداً يوجب اليمين بالمصحف . وقال الشافعي: رأيتهم يؤكدون بالمصحف ، ورأيت ابن مازن وهو قاضي بصنعاء يغلظ اليمين بمصحف . قال أصحابه: – أي أصحاب الشافعي – فيغلظ عليه بإحضار المصحف ، لأنه يشتمل على كلام الله تعالى وأسمائه .
قال ابن قدامة: ” وهذا زيادة على ما أمر به رسول الله ﷺ في اليمين ، وفعله الخلفاء الراشدون وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها ، ولا يترك فعل رسول الله ﷺ وأصحابه لفعل ابن مازن ولا لغيره