على المسلم أن يقف أمام سنة النبي – ﷺ – موقف إكبار وتقدير فليس كل ما لا يقبله عقله يرده، فما لا يقبله عقله هو تقبله عقول الآخرين ، وما يكون في زمن مستغربا يكون في زمن آخر مألوفا، وقد قرر علماؤنا أن الدين يأتي بما يحار فيه العقل، ولكنه لا يمكن أن يأتي بما يحيله العقل، فلا يتناقض صحيح المنقول، وصريح المعقول، بحال من الأحوال.
يقول العلامة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
تعرضت السنة لموضوعات تتعلق بـ ” عالم الغيب ” – بعضها يتصل بغير المنظور من عالمنا هذا، مثل الملائكة الذين جندهم الله تعالى لوظائف شتى: (وما يعلم جنود ربك إلا هو) (المدثر: 31) . ومثل الجن، سكان الأرض، المكلفين مثلنا، ممن يروننا ولا نراهم، ومنهم الشياطين، جنود إبليس الذي أقسم أمام الله تعالى على إغوائنا وتزيين الباطل والشر لنا: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين). (سورة ص: 82 – 83).
ومثل العرش والكرسي واللوح والقلم.
وبعض هذه الغيبيات تتعلق بالحياة البرزخية، حياة ما بعد الموت قبل قيام الساعة، مما يتصل بسؤال القبر ونعيمه أو عذابه، وبعضها الآخر يتعلق بالحياة الآخرة، بالبعث والحشر والموقف وأهوال يوم القيامة، والشفاعة العظمى، والميزان والحساب، والصراط والجنة وألوان النعيم فيها من مادي وروحي ودرجات الناس فيها، والنار وأنواع العذاب فيها، من حسي ومعنوي، ودركات الناس فيها.
وكل هذه الأمور أو جلها مما تعرض له القرآن الكريم، ولكن السنة المشرفة توسعت وفصلت فيما أجمله القرآن. ولا بد أن نشير هنا إلى أن بعض ما وردت به الأحاديث هنا لا يبلغ مرتبة الصحة التي يعتد بها، فلا ينبغي أن يلتفت إليه. إنما الكلام هنا فيما ثبت وصح من أحاديث المصطفى ﷺ.
والواجب على العالم المسلم هنا أن يُسَلِّم بما صح ثبوته حسب قواعد أهل العلم، وسلف الأمة المقتدى بهم، ولا يجوز رده لمجرد مخالفته لما عهدناه، أو استبعاد وقوعه تبعًا لم ألفناه، ما دام في دائرة الممكن عقلاً، وإن كنا نعتبره مستحيلاً في العادة، فقد استطاع الإنسان، بما أوتي من علم، أن يصنع أشياء كانت في حكم المستحيل عادة، ولو حكيت لأحد الأقدمين، لرمي من يحكيها بالجنون، فكيف بقدرة الله تعالى، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟.
لهذا قرر علماؤنا أن الدين يأتي بما يحار فيه العقل، ولكنه لا يمكن أن يأتي بما يحيله العقل، فلا يتناقض صحيح المنقول، وصريح المعقول، بحال من الأحوال.
وما يُظَن من تناقض بينهما، فلا بد أن غلطًا قد وقع، فإما أن يكون النقل غير صحيح، أو يكون العقل غير صريح، أعني أن ما ظنه الإنسان دينًا ليس من الدين، أو ما ظنه علمًا أو عقلاً ليس من العلم والعقل.
ولقد غلت بعض المدارس أو الفرق الإسلامية، مثل المعتزلة في رد بعض ما تستبعده عقولهم من صحاح الأحاديث، كما رأينا موقف بعضهم من رد الأحاديث التي تحدثت عن سؤال الملكين في القبر، وما يعقب ذلك من نعيم أو عذاب.
ومثل ذلك موقفهم من أحاديث ” الميزان ” و ” الصراط “. وموقفهم من رؤية المؤمنين لله تعالى في الجنة.
ومن بعض الأحاديث التي تتحدث عن الجن وعلاقتهم ببني الإنسان.
وقد ذكر الإمام الشاطبي في كتابه القيم ” الاعتصام ” أن من خصال أهل الابتداع والانحراف: ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدعون أنها مخالفة للمعقول، وغير جارية على مقتضى الدليل، فيجب ردها، كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط والميزان، ورؤية الله عز وجل في الآخرة، وكذلك حديث الذباب ، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، وأنه يقدم الذي فيه الداء، وحديث الذي أخذ أخاه بطنه فأمر النبي ﷺ بسقيه العسل، وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول..
ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم – وحاشاهم – وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم، كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب، وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة، لينفروا الأمة عن اتباع السنة وأهلها.
وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولاً بما لا يُعقل! وقد سُئل بعضهم: هل يكفر مَن قال برؤية الباري في الآخرة ؟ فقال: لا يكفر لأنه قال ما لا يعقل، ومن قال ما لا يعقل فليس بكافر !.
وذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملة، والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن، حتى أباحوا الخمر بقوله: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا). (المائدة: 93).
ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله ﷺ : ” لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ” (رواه أبو داود برقم 4605، والترمذي برقم (2665) من حديث أبي رافع، ورواه أحمد في المسند مختصرًا 8/6)، وهذا وعيد شديد تضمنه النهي، لاحق بمن ارتكب رد السنة “. (الاعتصام (231/1،232)، مطابع شركة الإعلانات الشرقية.ا هـ.
ومن ذلك: استبعاد بعض أدعياء التجديد من المعاصرين الحديث الصحيح: ” إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها “.
والحديث متفق عليه، رواه الشيخان عن سهل بن سعد، وأبي سعيد وأبي هريرة انظر: اللؤلؤ والمرجان – الأحاديث (1799، 1800، 1801)،، ورواه البخاري أيضًا عن أنس، ولهذا قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وظل ممدود) (الواقعة: 30): فهذا حديث ثابت عن رسول الله ﷺ، بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث.
والظاهر: أن الأعوام المائة من أعوام الدنيا، ولهذا يقول في رواية أبي سعيد: ” الراكب الجواد المضمر السريع ” ولا يعلم إلا الله النسبة بين الزمن في دنيانا، والزمن عند الله، وفي القرآن: (وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون). (الحج: 47).
وإذا صح الحديث لم يسعنا إلا أن نقول مطمئنين: آمنا وصدقنا، موقنين أن للآخرة قوانينها الخاصة المخالفة لقوانين هذه الدنيا، حتى قال ابن عباس: ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء!.
ومثل ذلك ما جاء في عذاب أهل الكفر في النار، مثل ضخامة ضرس الكافر، وبعد ما بين منكبيه، وغلظ جلده، فالتسليم بها هو الأسلم والبحث في تفصيلها لا طائل تحته.
كما أن الداعية الموفق لا يشغل عقول قرائه أو مستمعيه بهذا النوع من الأحاديث التي من شأنها أن تثير إشكالات عند العقل المعاصر، ولا يتوقف على العلم بها صلاح دين، ولا سعادة دنيا، إنما تذكر في مناسباتها عند الاقتضاء.
وأولى ما يشغل به المسلم نفسه أن يسأل الله الجنة، وما قرب إليها من قول وعمل، وأن يستعيذ به من النار، وما قرب إليها من قول وعمل، وأن يسلك سلوك أهل الجنة، وينأى بنفسه عن سلوك أصحاب النار.
والموقف السليم الذي يفرضه منطق الإيمان، ولا يرفضه منطق العقل: أن نقول في كل ما أثبته الدين من الغيبيات: آمنا وصدقنا، كما نقول في كل ما جاءنا به من التعبديات: سمعنا وأطعنا.
أجل .. نؤمن بما جاء به النص، ولا نسأل عن كنهه وكيفه، ولا نبحث عن تفصيله، فإن عقولنا كثيرًا ما تعجز عن الإحاطة بهذه الأمور الغيبية، فإن الله الذي خلق الإنسان لم يؤهله لمثل هذا الإدراك، لأنه لا يحتاج إليه للقيام بمهمته في الخلافة في الأرض.
ولو أن المدرسة العقلية الكلامية التي يمثلها المعتزلة، وفقت إلى إدراك هذه الحقيقة، والتسليم بها، ما كانوا بحاجة إلى إنكار الأحاديث الصحاح التي أثبتت رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة، وأنهم يرون ربهم كما يرون القمر ليلة البدر، والتشبيه للرؤية في الوضوح لا للمرئي، بالإضافة إلى ظاهر القرآن الذي تعسفوا في تأويله، من مثل قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة). (القيامة: 22 – 23).</
والخطأ الأساسي الذي وقعوا فيه هو قياس الغائب على الشاهد، والآخرة على الأولى، وهو قياس مع الفارق، فلكل دار قوانينها.
لهذا أثبت أهل السُنَّة الرؤية، مع اتفاقهم على أنها لا تكون على المعهود من رؤية البصر المعروفة لنا في مجرى العادة، بل هي – كما قال الإمام محمد عبده – رؤية لا كيف فيها ولا تحديد، ومثلها لا يكون إلا ببصر يختص الله به أهل الدار الآخرة، أو تتغير فيه خاصته المعهودة في الحياة الدنيا، وهو ما لا يمكننا معرفته، وإن معرفته، وإن كنا نصدق بوقوعه متى صح الخبر. (رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده بتعليق السيد رشيد رضا ص 187، 188).
وقد علق السيد رشيد رضا على كلام شيخه في وسيلة الرؤية في الآخرة بقوله: ” الإدراك في الحقيقة للروح، وإنما الحواس آلات لها، وقد ثبت بالتجارب القطعية لدى علماء الشرق والغرب في هذا العصر: أن من الناس من يبصر ويقرأ وهو مغمض العينين، فيما يسمونه قراءة الأفكار، ويبصر بعض الأشياء دون بعض في العمل النومي، ومنهم من يبصر الشيء مع الحجب الكثيرة، والبعد الشاسع كمن أبصر وهو بمصر قريبه في الإسكندرية خارجًا من داره إلى المحطة – إلى آخر ما تقدم في حاشية ص 105، فإذا كان هذا قد ثبت في هذا العالم على خلاف المألوف في الرؤية لكل الناس – فهل يليق بعاقل أن يستشكل ما هو أغرب منه، وأبعد عن المألوف في الجنة، وهي من عالم الغيب المخالفة سننه ونواميسه لعالم الشهادة، وهل كان استشكال منكري الرؤية إلا بسبب قياس عالم الغيب على عالم الدنيا في الرؤية والمرئي ؟ وهو قياس باطل، وبطلانه في المرئي أظهر “. (رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، المصدر السابق).