القضايا المصيرية التي تتعلق بأمر دين بأكمله وكيان أمة أجمعها لا يجوز الاحتجاج فيها بالضعيف من الحديث وخاصة إذا تعارض ذلك مع صريح القرآن الذي لا يقبل المراء ولا الجدال، وحديث “بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري. ومن تشبه بقوم فهو منهم” فيه مقال وقد تكلم في رواته أهل الجرح والتعديل من علماء الحديث، كما تكلموا في متنه ونهمس في أذن الداعين إلى الله ومن أناطوا بأنفسهم حمل رسالة الإسلام والذب عنه، أن يقفوا على جوهر الإسلام وأن يفقهوا جيدا حقيقة الرسالة التي جاء بها خير الأنام، وأن يكون عمدتهم في ذلك كتاب الله عز وجل الذي “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميـد” والسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله – ﷺ ـ وعلى المسلمين عامة والعاملين في حقل الدعوة إلى الله خاصة أن يستوثقوا ويبذلوا قصارى جهدهم في الوصول إلى الحق حتى لا يُنسَب إلى دين الله – عز وجل ـ ما هو منه براء وأن يحذروا أن يقعوا تحت طائلة قوله تعالى: “قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ” أعاذنا الله أن نكون منهم.
والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا محمد بن زيد –يعني الواسطي- أخبرنا ابن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي منيب الجرشي، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ:” بعثت بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
وقد نقل الدكتور القرضاوي كلاما كثيرا حول ما ذكره العلماء المعاصرون في تخريجهم لهذا الحديث ملخصه ما يلي:-
تخريج الشيخ شاكر:
الشيخ أحمد شاكر قال في تخريجه: إسناده صحيح والحديث ذكر البخاري بعضه في الصحيح 6: 72 معلقًا، والحديث في إسناده أبو منيب لا يعرف اسمه، وفيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف في توثيقه،
قال عنه أحمد: أحاديثه مناكير، وقال أيضًا: لم يكن بالقوي في الحديث.
وقال أيضًا: كان عابد أهل الشام.
قال الشيخ شاكر: والظاهر: أنهم تكلموا فيه من أجل القدر، ومن أنه تغير عقله في آخر عمره، ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء، وصحح له الترمذي حديثًا. انتهى.
وعقب فضيلة الدكتور القرضاوي على تخريخ الشيخ شاكر قائلا:
هذا ما انتهى إليه العلامة الشيخ شاكر رحمه الله، فقد صحح إسناد الحديث، برغم ما في الرجل من خلاف شديد حول توثيقه أو تضعيفه. والشيخ شاكر معروف بتساهله في التصحيح، فلا يكاد يوجد راو مختلف فيه إلا ووثقه واعتمده. و قول الإمام أحمد : أحاديثه مناكير يدل على أنه لم يضعفه من أجل القدر كما قال الشيخ.
وقد رأيناه نقل عن حافظين كبيرين ذكرا الحديث ولم يصححاه:
أحدهما: الحافظ نور الدين الهيثمي صاحب (مجمع الزوائد)
والثاني: الحافظ ابن حجر في (الفتح)
وكلاهما ذكر الحديث، وذكرا ما في راويه ابن ثوبان من خلاف. ومما يؤخذ على كلام الشيخ شاكر: أنه قال: ذكر البخاري بعضه في الصحيح معلقًا، وكان ينبغي أن يقول: بغير صيغة الجزم، بل بصيغة التمريض والتضعيف. لأنه قال: ويُذكر عن ابن عمر…… إلخ.
تخريج الشيخ شعيب الأرناؤوط:
وفي تخريج المسند في الجزء السابع الذي اشترك فيه مع الشيخ شعيب: محمد نعيم العرقسوس وإبراهيم الزئبق، قالوا: إسناده ضعيف، على نكارة في بعض ألفاظه، وابن ثوبان: اختلفت فيه أقوال المجرحين والمعدلين، فمنهم من قوى أمره، ومنهم من ضعفه، وقد تغير بآخره. وخلاصة القول فيه: أنه حسن الحديث إذا لم يتفرد بما ينكر، فقد أشار الإمام أحمد إلى أن له أحاديث منكرة، وهذا منها.
وعلق البخاري (6/98 الفتح) بعضه بصيغة التمريض.
وأخرجه الطحـاوي في (شرح مشكل الآثار ) بإسناده، وفيه ثلاث علل، بينوها بتفصيل، ثم قالوا: فهذه العلل الثلاث مجتمعة لا يمكن معها تقوية الحديث المرفوع بمتابعة الأوزاعي لابن ثوبان. والله تعالى أعلم.
انظر: الجزء السابع من مسند الإمام أحمد ص 123-125 تخريج الحديث (5114). أ.هـ
ما نقله المزي في تهذيب الكمال:
وننقل إليك بعض ما ذكره الحافظ المزي في تهذيب الكمال وهو من أهم الكتب في هذا الباب عن ابن ثوبان، فقد قال في ترجمته برقم (3775 ):
قال أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل: أحاديثه مناكير.
وقال محمد بن علي الوراق، عن أحمد بن حنبل: لم يكن بالقوي في الحديث.
وقال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، عن يحيى بن معين: صالح، وقال في موضع آخر: ضعيف.
وقال النسائي: ضعيف.
وقال في موضع آخر: ليس بالقوي.
وقال في موضع آخر: ليس بثقة.
قال دحيم: ثقة، يرمى بالقدر كتب إليه الأوزاعي، فلا أدري أي شيء رد عليه.
وقال أبو حاتم: ثقة، وقال في موضع آخر: يشوبه شيء من القدر.
وقال ابن خراش: في حديثه لين.
وذكره ابن حبان في كتاب “الثقات “.
وقال أبو بكر الخطيب: كان ممن يذكر بالزهد والعبادة والصدق في الرواية. انتهى
ويعقب فضيلة الدكتور القرضاوي فيقول:
وبهذا يتبين لنا أن مجرحيه أكثر، وأن موثقيه- وهم قلة- لم يوثقوه بإطلاق. فدحيم الذي وثقه قال: يرمي بالقدر، كتب إليه الأوزاعي، فلا أدري أي شيء رد عليه. وأبو حاتم الذي وثقه قال عنه أيضًا: يشوبه شيء من القدر. وتغير عقله في آخر حياته.
وكما رمي بالقدر، رمي بالخروج، وقد ذكر الذهبي في (الميزان) عن الوليد بن فريد أنه روى عن الأوزاعي، أنه كتب إلى ابن ثوبان يقول له: وقد كنت ترى قبل وفاة أبيك: ترك الجمعة حرام، وقد أصبحت ترى ترك الجمعة والجماعة حلالاً.
ومعنى هذا: أنه رجل لديه استعداد للغلو، ومثله يروج عنده حديث مثل “بعثت بين يدي الساعة بالسيف “.
ونقل الذهبي عن العقيلي أنه قال: لا يتابع ابن ثوبان إلا من هو دونه أو مثله.
وذكره ابن الجوزى في جملة الضعفاء.
وقال الذهبي في (أعلام النبلاء): لم يكن بالمكثر، ولا هو بالحجة، بل صالح الحديث.
وقال ابن حجر في (التقريب): صدوق يخطئ، ورمي بالقدر، وتغير بآخره . انتهى.
ومثل هذا الراوي لا يؤخذ منه حديث يحمل مثل هذا المضمون الخطير: الإسلام دين السيف! وأن الرسول يرتزق من رمحه!
نظرة أخرى في الحديث من جهة متنه ومضمونه:
وإذا غضضنا الطرف عن سند الحديث وما فيه من كلام، ونظرنا في متنه ومضمونه، وجدناه منكرًا، لا يتفق مع ما قرره القرآن بخصوص ما بعث به محمد ﷺ.
فالقرآن لم يقرر في آية واحدة من آياته أن محمدًا رسول الله بعثه الله بالسيف، بل قرر في آيات شتى أن الله بعثه بالهدى ودين الحق والرحمة والشفاء والموعظة للناس.
وهذا ثابت بوضوح في القرآن المكي، وفي القرآن المدني، على سواء.
يقول تعالى في سورة الأنبياء وهي مكية: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107.
وعبر عن هذا النبي ﷺ فقال: (إنما أنا رحمة مهداة ).
وقال تعالى في سورة النحل، وهي مكية: (ويوم نبعث في كل أمة شهيدًا عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيدًا على هؤلاء، ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل:89.
وقال تعالى في سورة يونس وهي مكية: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) يونس:57.
وقال تعالى في سورة التوبة ، و هي مدنية : (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون) التوبة:33.
وقد تكررت بلفظها في سورة الصف:9 وهي مدنية.
وفي سورة الفتح، وهي مدنية، نقرأ قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا) الفتح:28.
وفي ختام سورة التوبة أيضًا:(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإن توَلَّوْا فقل حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) التوبة:129.
وفي سورة آل عمران، وهي مدنية: (فإن حاجوك، فقل: أسلمت وجهي لله ومن اتبعن، وقل للذين أتوا الكتاب والأميين: أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ، والله بصير بالعباد) آل عمران:20.
وفي سورة النور، وهي مدنية: (قل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن تولوا فإنما عليه ما حمل، وعليكم ما حملتم، وإن تطيعوه تهتدوا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين) النور:54.
وهذه الآيات كلها قد اتفقت على أن محمدًا -ﷺ- إنما بعث بالرحمة والهدى ودين الحق، وتبيان كل شيء، وإقامة الحجة على الناس، ولم يبعث شاهرًا سيفه على الناس، حتى في حالة تولي الناس عنه: لم يؤمر بأن يشهر في وجوههم السيف، إنما قيل له: إنما عليك البلاغ، وإنما عليه ما حمل، وعليهم ما حملوا وقل: حسبي الله.
والمبشرون والمستشرقون، وغيرهم من خصوم الإسلام يشيعون: أن الإسلام إنما انتشر بالسيف ويستند كثيرون منهم إلى هذا الحديث وأمثاله.
والحقيقة أن الإسلام إنما شهر السيف في وجه الذي صدوا عن سبيله، وقاوموه بالقوة، ورفعوا السيف في وجهه، كما قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) البقرة: 190 إلى 193.
فهذا هو منطق القرآن، بين كل البيان، لا لبس فيه ولا غموض، فإذا عارضه حديث مثل حديث (بعثت بالسيف) فلا شك أن القرآن هو المقدم، فهو المصدر الأول، والدليل الأول، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولو بعث الرسول بالسيف، لظهر ذلك طوال ثلاثة عشر عامًا، قضاها في مكة، وأصحابه يأتون إليه بين مضروب ومشجوج ومعتدى عليه، يستأذنونه في أن يدافعوا عن أنفسهم بالسلاح، فيقول لهم:كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة. حتى هاجروا إلى المدينة فأذن الله لهم أن يدافعوا عن أنفسهم وحرماتهم ودعوتهم. كما قال تعالى:{أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ……….الآية} الحج:39،40.
والخلاصة: أن حديث (بعثت بالسيف) سواء نظرنا إلى إسناده أم نظرنا إلى متنه، فهو مردود غير مقبول في ضوء موازين العلم وقواعده الضابطة.