الحضارة الصناعية الغربية الحديثة لها مزايا كثيرة لا يُنْكِرها إلا مُكابِر؛ فقد قامت على مجموعة من القِيَم الاجتماعية المُهِمَّة مثل: إتقان العمل، والنظام، والتعاون، وحُسْن الإدارة، واحترام العِلْم القائم على المُلاحَظة والتجرِبة. وقد سَهَّلت للإنسان الاستفادة من العِلْم عن طريق التكنولوجيا الهائلة التي شَهِدَها عصرنا، وبذلك اخْتَصَرَت الزمن، وطَوَت المسافات، وقَرَّبَت بين أطراف العالَم، حتى أصبح العالَم الكبير كأنه قرية واحدة.
واستطاعت هذه الحضارة أن تُوَفِّر المجهود البَدَنِي للإنسان عن طريق الآلة، ثم في رِحْلَتِها الثانية استطاعت أن تُوَفِّر مجهوده الذهني عن طريق هذا الجهاز العجيب “الكمبيوتر”.
ولكن هذه الحضارة يَنْقُصُها جانب مُهِمٌّ، لم تَلْتَفِتْ كثيرًا إليه، وهو الجانب الرباني أو الرُّوحي في حياة الإنسان.
إنها عُنِيَت بالجانب المادي، وأغفلت جانب الروح، وبهذا عَمَّرت الأرض، وخَرَّبت الإنسان، هَيَّأَتْ له وسائل الرفاهية والمُتْعَة، ولم تُهَيِّئ له أسباب السكينة والطمأنينة؛ لأن مصدر هذه هو الإيمان. وهذا لا يَعْنِيها لأن أكبر هَمِّها محصور في تحسين الوسائل والأدَوات، وليس في تحقيق المقاصد والغايات! ولهذا كانت حضارة مبتورة ناقصة، بحُكْم نَشْأَتِها وظروفها التاريخية، حيث كانت الكنيسة الغربية التي تُمَثِّل الدين هناك قد وَقَفَتْ عائقًا في سبيل التقدُّم والتحرُّر والإبداع.
وقَفَتْ مع الجهل ضد العِلْم، ومع الجُمود ضد التطور، ومع العبودية ضد التحرر، ومع الملوك ضد الشعوب.. فثارت عليها الجماهير قائلة: اشْنُقُوا آخر ملك بأمعاء آخر قِسِّيس!
ومِنْ هنا كانت هذه الحضارة جديرة أن تُوصَف بأنها ليست حضارة المسيح ابن مريم، وإنما هي حضارة المسيخ الدجَّال. فهو أعورُ، وهي حضارة عوراء.
على معنى أنها تَنْظُر إلى الحياة والإنسان والكون من ناحية واحدة، وهي الناحية المادية، وتَنْسَى أن للكون إلهًا، وأن للإنسان رُوحًا وأن للحياة غاية هي الإعداد لحياة أخرى هي خير وأبقى، وليس معنى مثل هذا الكلام أن هذا هو التفسير المُراد من”المسيح الدجال” الذي ورد في الأحاديث النبوية الصحيحة وحَذَّر منه النبي ـ ﷺ. وإنما هو من باب التفسير”الإشاري”، والذي يَذْكُره بعض علماء التفسير، وهو غير التفسير الحقيقي المُبَيِّن للمُراد بالنص.
فمِن المعلوم الذي لا يَخْفَى على دارس للحديث أن “الدجَّال” الذي وردت به النصوص، إنما هو شخص من البشر، يَخْرُج مُدَّعِيًا الألوهية ويَمْلِك من أساليب التأثير ما يُمَكِّنه من إضلال بعض الناس، وفِتْنَتِهم عن دينهم، ولكن المؤمنين قد عرفوه قبل أن يُوجَد، فلا تَزِيدُهم خَوارِقُه وألاعيبه إلا إيمانًا مع إيمانهم، ويقينًا بحقهم، ولو نالوا في سبيل ذلك الشهادة. وليس من المَنْطِق العِلْمي في شيء أن نَرُدَّ الأحاديث التي استفاضت وثبتت صِحَّتُها وتلقَّتْها الأمة في سائر عصورها بالقَبول، كما لا يجوز لنا أن نُؤَوِّلَها تأويلًا يُبْطِل معناها ويُخْرِجُها عن ظاهرها المُتَبادَر للفَهْم بلا حُجَّة. كما هو شأن الباطنية الذين أهدروا رسالة اللغة حين فَسَّروا ألفاظَها بحَسَب أهوائهم ومُعْتَقَداتهم الخاصة لا بحَسَب دَلالتها الوَضْعية، فأفسدوا بذلك اللغة والدين جميعًا.