لقد كانت للعناية الإلهية العظيمة بالأيتام وضعاف المسلمين من أرامل وغيرهن ، عظيم الأثر في فؤاد النبي ﷺ .
لا جرم فقد أنزل الله تعالى على نبيه المصطفى ﷺ وحيًا مباشرًا يحثه على مثل ما أراده سبحانه من سائر الأمة حيث قال له سبحانه : ( ….ألم يجدك يتيمًا فأوى . ووجدك ضالاً فهدي . ووجدك عائلاً فأغنى . فأما اليتيم فلا تقهر . وأما السائل فلا تنهر .وأما بنعمة ربك فحدث ) (الضحى6-11) .
وهذا من كمال العناية الإلهية في الإرشاد والتوجيه لرسول الله ﷺ ، حيث خصه بخطاب في ذلك ، ليكون له مزيد عناية بهؤلاء الضعفاء ، على ما كان عليه النبي ﷺ من الرأفة الكاملة والرحمة التامة بهم وبأمثالهم من سائر الخليقة كما علم ذلك من سيرته ﷺ .
أما عنايته ﷺ بهم بنفسه ، فيتمثل بأنه قد كان يضمهم إليه ويجعلهم كأبنائه ومن يعول من حاشيته :
1- وذلك كما فعل بأولاد أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي – رضي الله عنه – الذي مات سنة 4هـ عن أولاد صغار ، وعن زوجته الكريمة أم سلمة– هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية – فيتم الأطفال ، وتأيمت المرأة ، فقام النبي ﷺ بكفالتهم جميعًا كما يكفل أبناءه .
2- فإنه ﷺ لما علم بانقضاء عدة أم سلمة – رضي الله عنها – أرسل إليها يخطبها ليكفلها وأولادها ، وقال لها لما أرادت أن تعتذر إليه بغيرتها وكثرة صبيانها : [ أما قولك :إني غَيْرَى ، فسأدعو الله فتذهب غيرتك ، وأما قولك : فإني امرأة مصبية فستكفين صبيانك ] (النسائي) فرضيت وتزوجها النبي ﷺ وعال أيتامها.
3- ولما أفاء الله تعالى عليه كان يلي أمر كل مسلم يموت وله عيال ويقول : [ أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن توفي من المؤمنين فترك دينًا أو كلاً أو ضياعًا فعلي وإلي ، ومن ترك مالاً فلورثته ] . ( البخارى ومسلم ) .
حث النبي ﷺ على كفالة اليتيم :
ومع ما يقتضي هذا الصنيع من التأسي لعامة المسلمين وخاصتهم فإن النبي ﷺ قد ندبهم إلى ذلك بأحاديث قوليه رغبهم فيها على كفالة الأيتام ورعايتهم والقيام بما يصلح أمور دينهم ودنياهم ، وأقواله في ذلك كثيرة منها :
1- قوله ﷺ : [ ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ) وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما ] ( رواه البخاري) .
2- وفي رواية :( كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو في الجنة كهاتين ) وأشار مالك – راوي الحديث- بالسبابة والوسطى .
3- وجاء في حديث آخر عنه ﷺ أنه قال : [ ( أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة ) وأومأ بيده ] – يزيد بن زريع الراوى عن عوف – الوسطى والسبابة.
4- : [ امرأة آمت – أي مات زوجها وتركها أيمًا – من زوجها ذات منصب وجمال ، حبست نفسها علي يتاماها حتى بانوا أو ماتوا ] . (أبوداود).
وفي هذا التصوير من الدلالة على عظيم العناية باليتيم ما يستوجب المسارعة على ذلك كما قال ابن بطال : ” حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي ﷺ في الجنة قال : (( ولا منزلة في الجنة أفضل من ذلك )) .
5- وقد جاء التأكيد على بشارة كافل اليتيم والمحسن إليه بالجنة في أحاديث أخرى ، من ذلك قوله ﷺ : (( من ضم يتيمًا بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة ، ومن أدرك والديه أو أحدهما ثم لم يبرهما دخل النار فأبعده الله ، وأيما مسلم أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار ) . ( رواه أحمد)
إشعار اليتامى بالحنان والعطف :
ولقد كانت عنايته بهم غير مقتصرة على الحث على الكفالة والرعاية، بل كذلك في إشعارهم بالحنان والمحبة ، وإدخال الأنس في قلوبهم الذي كانوا يألفونه من آبائهم ، حتى لا يشعروا بفقد الأب الحاني لوجود من يعوضهم عن حنوه وعطفه وبره :
1- فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رجلاً شكا إلى رسول الله ﷺ قسوة قلبه فقال [ امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين ] . ( رواه أحمد)
2- وعن أبي أمامة – رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال : [ من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات ومن أحسن إلى يتيمه أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين ، وفرق بين أصبعيه السبابة والوسطى ] .(أحمد)
ولا شك أن اليتيم وهو الذي لم يزل في عالم الطفولة الآنسة بالملاعبة واللطافة ، سيأنس جدًا بمثل هذه المسحة الحانية، وهذا التلطف الأبوي ، وسيجد بذلك من يعوضه عن أبيه في مثل ذلك الأنس الذي فقده إياه ، وما كان سينال ذلك لولا هذا التوجيه النبوي العظيم الذي يجعل كل المسلمين أبًا حنونًا على اليتيم .
ثم إن النبي ﷺ لم يقتصر في عنايته بالأيتام على أسلوب الحث والترغيب ، بل لقد استخدم أيضًا أسلوب التحذير والتنفير من الإساءة إلى الأيتام أو أكل أموالهم بالباطل ، بحيث لا يقدم على فعل ذلك بعده إلا من غلبت عليه شقوته وكان من الضالين .
فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال : (( اجتنبوا السبع الموبقات )) قالوا : يا رسول الله وما هنّ ؟ قال: (( الشرك بالله ، والسحـر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات )) . (البخاري)
ففي هذا الوعيد ما يكفي زاجرًا لمن تسول له نفسه التفريط في أموال اليتامى إذ لا طاقة لأحد بعذاب الله تعالى الذي رتبه على فعل ذلك، أكلاً أو إحراقًا أو تفريطًا أو غير ذلك مما يكون فيه هلكة لمال اليتيم وإتلاف له .