نواقض الوضوء بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف عليه وسنذكر هنا النواقض التي اتفق عليها جمهور العلماء كما ذكرها فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتاب فقه الطهارة :
إذا توضأ المسلم، كان على طهارة، تبيح له الدخول في الصلاة، ومس المصحف، والطواف بالبيت الحرام، ويظل على هذه الطهارة حتى يحدث منه ناقض للوضوء.
النواقض المتفق عليها
وقد حدد الشرع الأمور التي تنقض الوضوء، فمنها: المتفق عليه، ومنها: المختلف فيه.
- البول والغائط
فمن المتفق عليه من نواقض الوضوء: خروج البول أو الغائط من الإنسان.
ونقض البول والغائط للوضوء أمر معروف متفق عليه، بل هو معلوم بالضرورة من الدين، لا يحتاج إلى إثباته بدليل.
والحكمة فيه واضحة، فبعد خروج هذا النجس من الإنسان يكون في حاجة إلى أن يتطهر من جديد، حتى يكون أهلا لملاقاة ربه.
- المذي والودي
ويلحق بالبول مما يخرج من قُبُل الرجل: المذي والودي.
والمذي: ما يخرج من ذكر الرجل عقب المداعبة أو النظر أو التفكير الجنسي. وهو ماء لزج يخرج مسبسبا وليس متدفقا كالمني.
والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول.
وكلاهما ينقض الوضوء كالبول، ولا يوجب إلا الاستنجاء والوضوء.
روى سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناء، وكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك للنبي ﷺ، فقال: “إنما يجزيك من ذلك الوضوء” رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
- خروج الريح من الدبر
ومن نواقض الوضوء: خروج الريح من الدبر. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: ” لا يتقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ” وقد فسر أبو هريرة الإحداث: لما قال له رجل: ما الحدث؟ قال: فُساء أو ضُراط.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري: أنه شكا إلى رسول الله ﷺ: الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة (أي يحس بالحدث خارجا من دبره) فقال: “لا ينفتل أو لا ينصرف، حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا”.
ومعناه: أنه باق على طهارته ووضوئه، لأنها يقين، فلا يزول بالشك، حتى يستيقن بسماع الصوت بأذنه، أو بريح يشمه بأنفه.
والفقهاء يعبرون عن هذه الأشياء التي ذكرناها: البول والغائط، والمذي والودي، والريح بـ (ما خرج من السبيلين). ويعنون بالسبيلين: القُبُل والدبر.
الحكمة في الوضوء من الريح
وقد سألني بعض الناس عن الحكمة في الوضوء من خروج الريح، قائلا: الوضوء من البول والغائط معقول، لما فيه من التطهر والتنظف من أثر النجاسة. ولكني لا أفهم الحكمة في الوضوء من الريح؟
قلت له: إن الوضوء من جملة الأمور التعبدية، التي لا يشترط أن تعقل الحكمة فيها تفصيلا، إلا الامتثال للأمر من الرب، وفيه يتجلى تمام الطاعة المطلقة للأمر، وإن لم يفهم المكلف سره، بل يقول الرب: أمرت ونهيت، ويقول المكلف: سمعت وأطعت.
على أنه قد خطر لي حكمة لم أقرأها لأحد، ولم أسمعها من أحد، وهي: أن الإسلام شرع صلاة الجمعة والجماعة في المساجد، وفيها تتجمع أعداد كبيرة، لأوقات قد تطول، ولا سيما في الجمعة، وقد حرص الإسلام على أن يكون الناس في حالة من الطهارة والنظافة والزينة بحيث لا يؤذي بعضهم بعضا، بقذارته أو بسوء رائحته. ولهذا أوجب الغسل أو سَنَّه، وقال: ” من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا “. وقال: ” من أكل من هذه الشجرة ” ـ يعني الثوم ـ ” فلا يقربن مسجدنا “.
فحماهم من الرائحة الكريهة التي تأتي من فوق: من طريق الفم، وبقيت الرائحة التي تأتي من تحت: من الدبر. فلو أبيح لكل من هؤلاء أن يتبحبح في ذلك ما شاء، وقد يبلغون الآلاف في بعض المساجد، فربما كان من وراء ذلك أذى يضايق الناس، وخصوصا ذوي الحس المرهف منهم، ولا يستطيعون أن يقولوا شيئا. فكان منع ذلك باسم الدين منعا لسبب من أسباب الأذى، دون إحراج لأحد.
وقد خطر لي هذا الخاطر منذ مدة طويلة، حيث كنا مجموعة من الشباب نبيت في مكان واحد، وكان بعضنا يشكو من سوء الروائح التي غيرت جو المكان بما لا يطاق، وصار بعضهم يتهم بعضا. فأدركت السر في اعتبار ذلك ناقضا للوضوء، مانعا من الصلاة. وأعتقد أنه اعتبار مقبول، وأنها حكمة غير مرفوضة.
- النوم الثقيل
ومن المتفق عليه في نواقض الوضوء: النوم الثقيل والطويل، كما إذا نام المرء في الليل نومه العادي، وأصبح.
وأما النعاس أو السِنَة: فلا ينقض الوضوء، لأنها نوم خفيف، وفرقوا بين النوم والنعاس، بأن النوم فيه غلبة على العقل وسقوط حاسة البصر وغيرها، والنعاس لا يغلب على العقل، وإنما تفتر فيه الحواس بغير سقوط.
ومن أدلة ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس، قال: ” قام رسول الله ﷺ ـ يعني: يصلي في الليل ـ فقمت إلى جنبه الأيسر، فجعلني في شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت (أخذتني غفوة أو سِنَة) يأخذ بشحمة أذني، فصلى إحدى عشرة ركعة .
وقد اختلف الفقهاء في حدّ النوم الذي ينقض الوضوء اختلافا كثيرا، ذكره النووي في (المجموع) كما ذكره ابن قدامة في (المغني) وغيرهما.
حتى قال النووي: حكي عن أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وأبي مجلز، وحميد الأعرج: أن النوم لا ينقض بحال، ولو كان مضطجعا. قال القاضي أبو الطيب: وإليه ذهبت الشيعة.
وقال إسحاق بن راهويه وأبو عبيد والمزني: ينقض النوم بكل حال. ورواه البيهقي عن الحسن البصري. وقال ابن المنذر: وبه أقول. وروي معناه عن ابن عباس وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم.
وقال مالك وأحمد في إحدى الروايتين: ينقض كثير النوم بكل حال دون قليله. وحكاه ابن المنذر عن الزهري وربيعة والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة وداود: إن قام على هيئة من هيئات المصلي، كالراكع والساجد، والقائم والقاعد: لم ينتقض وضوؤه، سواء كان في الصلاة أم لا، وإن نام مستلقيا أو مضطجعا أو مستندا إلى شيء: انتقض.
وذكر النووي أن الصحيح من مذهب الشافعي: أن النائم الممكن مقعده من الأرض أو نحوها ـ كالكرسي مثلا ـ لا ينتقض وضوؤه، وغيره ينتقض، سواء كان في صلاة أو غيرها، وسواء طال نومه أم لا.
والراجح: أن النوم اليسير لا ينقض، وأن نوم المتمكن لا ينتقض، وأن النوم بهيئة المصلي: لا ينقض وإن طال النوم وغَطَّ فيه، كما بينت ذلك صحاح الأحاديث.
فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ ينامون، ثم يصلون، ولا يتوضأون.
ورواه أبو داود بإسناد صحيح، وفيه: ينامون حتى تخفق رؤوسهم.
وفي رواية للبيهقي عن أنس قال: لقد رأيت أصحاب رسول الله ﷺ، يوقظون للصلاة، حتى إني لأسمع لأحدهم غطيطا (شخيرا) ثم يقومون فيصلون ولا يتوضأون.
وروى مسلم عن أنس قال: أقيمت صلاة العشاء، فقال رجل: لي حاجة، فقام النبي ﷺ يناجيه، حتى قام القوم، أو بعض القوم، ثم صلوا.
وفي رواية: حتى نام أصحابه، ثم جاء فصلى بهم.
وعن ابن عمر: أن النبي ﷺ شغل ليلة عن العشاء، فأخرها، حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ثم خرج علينا.
وعن ابن عباس: أعْتَمَ رسول الله ﷺ العشاء، حتى رقد الناس واستيقظوا ورقدوا واستيقظوا.
قال النووي: روى البخاري في صحيحه هذين الحديثين بهذا اللفظ وظاهرهما: أنهم صلوا بذلك الوضوء.
قال: وروى مالك والشافعي بإسناد صحيح: أن ابن عمر كان ينام وهو جالس، ثم يصلي ولا يتوضأ.
وروى البيهقي وغيره معناه عن ابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة وأبي أمامة. فهذه دلائل ظاهرة من الأحاديث الصحيحة والآثار.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه: الأظهر في هذا الباب: أنه إذا شك المتوضئ: هل نومه مما ينقض أو ليس مما ينقض؟ فإنه لا يحكم بنقض الوضوء، لأن الطهارة ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك. والله أعلم.
وذكر الفقهاء حكمة نقض الوضوء بالنوم، فقالوا: إنه ليس بحدث في ذاته، ولكنه مظنة الحدث: أن يخرج منه ريح أثناء نومه، وهو لا يشعر. والظاهر أنه إذا ثقل نومه واسترخت مفاصله، ولم يكن متمكنا: أن يخرج منه شيء، فأقيم هذا الظاهر مقام اليقين.
واستدلوا على هذا المعنى بحديث علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “العينان وكاء السَّه، فمن نام فليتوضأ”. وفي رواية: فإذا نامت العينان، استطلق الوكاء” قال النووي: حديث حسن رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما بأسانيد حسنة. والسّه: الدبر. والوكاء: الخيط الذي يشد به رأس الوعاء. ومعنى الحديث: العينان ـ أي اليقظة ـ وكاء الدبر، أي حافظة ما فيه من الخروج. أي ما دام المرء مستيقظا فإنه واعٍ لما يخرج منه، فإذا نام زال ذلك الضبط.
وعندي حكمة أخرى لم يذكرها الفقهاء، وهي: أن النوم الثقيل الطويل يوجب لصاحبه خمولا وفتورا، يحتاج معه إلى منشِّط لجسمه وأعضائه، يوقظ حسه ونفسه للإقبال على الصلاة بحيوية ونشاط، فكانت شرعية الوضوء مناسبة لذلك، كما شرع الغسل بعد الجماع لما يحدثه من فتور واسترخاء، يحتاج معه الجسم إلى أن يعمم بالماء الطهور.
- زوال العقل بجنون أو إغماء أو نحوهما
ومن نواقض الوضوء المتفق عليها: زوال العقل بجنون أو إغماء أو بمسكر أو بمخدر، أو بمرض أو غير ذلك، سواء كان السبب مباحا أم محظورا. وذلك مما أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء به. لأنه إذا انتقض الوضوء بالنوم، فلأن ينتقض بهذه الأسباب أولى.
وفي الصحيحين عن عائشة: أن النبي ﷺ أغمي عليه، ثم أفاق، فاغتسل ليصلي، ثم أغمي عليه، ثم أفاق فاغتسل .
والوضوء هنا واجب لمن يريد الصلاة، أما الغسل فهو مستحب.