اختلف الفقهاء حول أمر هذا النوع من النكاح، فيرى بعض الفقهاء بطلان هذا النكاح ومعاقبة الشهود على كتمانهم أمر الشهادة بل يصل الأمر عند هؤلاء الفقهاء (وهم المالكية وبعض فقهاء الحنابلة) إلى فسخ النكاح وإقامة الحد على الزوجين، ويرى بعضهم كراهة هذا النوع من النكاح وعدم بطلانه، ونحن نرجح الرأي الأول، وبخاصة في هذا العصر الذي اتخذ بعض المسلمين من سرية عقد النكاح مطية لارتكاب كثير من المنكرات حتى يصل الأمر ببعضهم أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات، ولو كان يشهر كل زواج ما استطاع أن يفعل ذلك وهذا ما ذهب إليه فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الفتاح إدريس حيث يقول:
انتشر هذا النَّوْع من النكاح الآنَ أكثر من ذي قبل، لاسيما بين طوائف من الناس على اختلاف ثقافاتهم، نظرًا لظروف اقتصادية أو اجتماعية تَحُول دون إتمام هذا الزواج على النحو الذي بَيَّنَه الشارع، وإذا كانت الغاية من الإشهاد على النكاح إعلانه بين الناس، وسد الذريعة إلى جحوده، إلا أن الشَّاهِدَيْنِ على هذا النكاح قد يُؤمَران بكِتْمان أمره، أو يتفقان على كتمانه بدون أمر من أحد، فتذهب بذلك الغاية التي من أجلها شُرِطَ الإشهار في النكاح.
وليس بخافٍ على أحد آثار هذا النكاح من النواحي الأخلاقية والأُسْرِيَّة والاجتماعية والقانونية والشرعية، وأقتصر في هذا المقام على بيان الحكم الشرعي، تاركًا لغيري بيانَ الجوانب الأخرى لهذا النكاح.
ونكاح السر: هو الذي لم يتحقق فيه الإشهار، وإن عُقِدَ بولي وشَّاهِدَيْن، وعدم إشهاره يتأتَّى بعدم الإعلان عنه، وأمر الشَّاهِدَيْنِ بكتمانه عن بعض الناس أو عن الناس كافة مدة من الزمن أو مطلقًا، أو اتفاقهما على الكِتْمان من غير أمر من أحد به، وعدم إثباته في وثيقة رسمية.
وقد اختلف الفقهاء في حكمه:
فذهب جمهور الفقهاء إلى كراهته، وإن كان عقده صحيحًا؛ وذلك لأن قول رسول الله ﷺ: “لا نِكاحَ إلا بوَلِيّ وشاهِدَيّ عَدْل” يفيد انعقاد النكاح بذلك وإن لم يوجد الإعلان، ولأن عقد النكاح من عقود المعاوضات، فلا يُشترَط إظهاره أو الإعلان عنه كعقد البيع.
وذهب المالكية وبعض الحنابلة إلى أن نكاح السر باطل، ويجب فسخه، ويرى المالكية أن الزوج يُؤمَر بتطليق مَن تزوَّجها سرًّا، فإن كان لم يدخل بها أو دخل بها، ولم يَطُل الزمان وجب فَسْخ هذا النكاح، ووجب على هذين الزوجين حدُّ الزنا إن أقرَّا بالوطء، أو قامت عليهما البينة به، ويُعاقَب الشاهدان كذلك إذا كتما أمر هذا الزواج بإيعاز من الزوجين أو أحدهما، أو من غيرهما، من غير إجبار على الكتمان، أو إذا كان الكتمان باتفاق بين الشَّاهِدَيْن.
ودليل هؤلاء على بُطلان هذا النكاح ما صحَّحه الحاكم، وحسَّنه غيره من حديث محمد بن حاطب الجُمَحي قال: قال رسول الله ﷺ: “فَصْل بَيْنَ الحلالِ والحرامِ الدفُّ والصوت” أي أن الإعلان عن النكاح بذلك هو الحد الفاصل بين النكاح والزنا، ومن ثَمَّ فإن نكاح السر الذي لا إعلان فيه نكاح مُحَرَّم، ومنها ما رواه أحمد في مسنده وابنه عبد الله في زوائده، وحسَّنه السيوطي في جامعه من حديث عمرو بن يَحيى المازني عن جده “أن النبي ـ ﷺ ـ كان يَكْره نِكاحَ السر، حتى يُضرَب بدف، ويقال: أتيناكم أتيناكم” وما رواه الطبراني وغيره بإسناد حسن عن السائب بن يزيد “أن رسول الله ـ ﷺ ـ لَقِيَ جَوَاريَ يُغَنِّين ويَقُلْن: حَيُّونا نُحَيِّيكم، فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا: حَيَّانا وحَيَّاكم، فقال رجل: يا رسول الله، تُرَخِّص للناس في هذا؟ قال: نعم، إنه نكاح لا سِفاح”، ومنها ما أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرهما من حديث عائشة أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: “أعلنوا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضرِبُوا عليه بالدُّفِّ”، وما رواه البخاري وابن حبان والحاكم وغيرهم بأسانيدَ صحيحةٍ عن عائشةَ قالت: “كانت عندنا جارية يتيمة، فزوَّجْناها رجلاً من الأنصار، فكنتُ فيمَن أهداها إلى زوجها، فقال رسول الله ﷺ: يا عائشة، إن الأنصار فيهم غَزَل، فما قلتِ؟ قالت: دَعَوْنا بالبركة، قال: أفلا قلتُم: أتيناكم أتيناكم.. فحَيُّونا نُحَيِّيكم.
ولولا الذهبُ الأحمر… ما حَلَّت بواديكم.
ولولا الحبةُ السمراءُ… لم تَسْمَن عَذَاريكم”.
فهذه الأحاديث وكثير غيرها يدل على أن النكاح يُعتبر فيه الإعلان والإشهار، وما لا يتم فيه ذلك فهو زنا، كما عبَّر رسول الله ـ ﷺ ـ ومن ثَمَّ فنكاح السر باطل، واجب الفَسْخ.
وهذا الرأي الأخير هو الذي تَرْكَنُ النفس إليه؛ لِما استدلَّ به أصحابه؛ ولأن القول بكفاية الإشهار على النكاح لتحقيق الإعلان عنه لا يتفق وكتمان الشَّاهِدَيْنِ أمرَ هذا النكاح، وكيف يتحقق إعلان النكاح وخبرُه غيرُ مُعْلَن على الكافَّة، لاسيما هؤلاء الذين يَقِفُون على المُعاشَرة التامَّة بين المُتَنَاكِحَيْنِ سِرًّا دون علم بحقيقة زواجهما، وهذا يُثير التهَم والشكوك في حقيقة العَلاقة بينهما.
يُضاف إلى هذا المفاسد الكثيرة التي تترتب على هذا النكاح، والتي لا تقتصر على أطراف هذه العَلاقة، بل تتعداها إلى غيرهم، وقد تصيب كثيرًا من الأفراد، وأدنى هذه المفاسد ما يترتَّب على النظرة القاصرة لكلٍّ من طَرَفَي هذه العلاقة، المقترنة بسوء النية.
فإن مَن يُقْدِم على هذا النكاح من الرجال، إما أن يَقْصُد الإضرار بزوجة سابقة أو بأولاده منها، وهو في جميع الأحوال يضر بالزوجة التي تزوَّجها سرًّا؛ لأنه ما تزوجها لتدوم العشرة بينهما، وإنما لقضاء الوَطَر، ثم يتركها إلى غيرها، وهكذا، فهذا النكاح من هذه الناحية شبيه بنكاح المُتْعة، الذي صَحَّ عن النبي ـ ﷺ ـ النهيُّ عنه، واتفق جمهور الفقهاء على حُرْمته، فضلاً عمَّا يترتَّب على هذا النكاح من ضياع حق هذه الزوجة في إثبات زوجِيَّتِها، وحقها في الصَّدَاق والنفقة وثبوت نسب ولدها من هذا الزوج، وحقها في إثبات الطلاق إذا طلَّقها، إلى غير ذلك من الحقوق التي تترتب على العقد الصحيح.
وقد تُقْدِم المرأة على هذا الزواج لمصلحة واهية كالحرص على الزواج من رجل بعينه، لا يقبل الزواج بها إلا سرًّا، أو الحرص على الحصول على معاش يَستَحِق لها ما لم تتزوج، أو حرصها على استمرار حَضَانتها لصغارها من زواج سابق، هذا فضلاً عمَّا في إقدامها على هذا الزواج بُغْيةَ الحصول على المعاش السابق من التدليس، وأكل الأموال بالباطل، وفي إقدامها عليه بُغْية استمرار حضانتِها لصِغارها تدليس وإضرار بهم؛ لانشغالها بهذا الزواج عنهم، وكل ذلك مُحَرَّم.