جريمة قتل النفس محرمة في القرآن باعتبارها نفسا تقتل بغير حق ومن فعلها متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه ، ووردت السنة بتأكيد حرمة الانتحار وذكرت العاقبة السيئةَ ، والعذاب الأليم لقاتل نفسه.
نهي الشرع عن قتل النفس:
فإن مِن الشذوذ الفادح المُزري بالإنسانية، الذي لم تنزل إليه الحيوانات العُجْم، أن يثورَ الإنسان على نفسه بفَقْرٍ ضاقت به يدُه، أو مرض طالت به زِمَانَتُهُ، أو إخفاقٍ في مَرْغوب، أو فِتْنَةٍ مِن لَعُوبٍ، أو أيِّ ضيق كان نوعه وكان مبعثه، فلا يجد لديه عزمًا، ولا إرادةً يدفع بها الثورة على نفسه، وتعجز مواهبه الإنسانية الأُولى ـ وفساد تصوُّره لسُنن الله في الحياة عن المُكافحة، وعن الصبْر والمُصابرة ـ فيَفِرُّ من الميدان فرارَ الجبان الذي خارت عزيمتُه، وتلاشت إنسانيته. ليس مِن ريب في أن نكْبة الإنسانية بقاتلِ نفسه أثقل في الميزان مِن نكْبتها بقاتل غيره.
نعم، كلاهما قاتلٌ لنفسٍ حرَّم الله قتلها، وكلاهما هادمٌ لعمارةٍ شادَها الله، ولكن الأول قتل غيْره ليَحْيَا، والثاني قتل نفسه ليموت. وإذا كانت فكرة القتل بغير حق جُرثومةَ إفسادٍ في الإنسانية، فإن فكرة قتْل الإنسان نفسَه أشدَّ فسادًا وأعظمَ خَطَرًا، تنهال الإنسانية منها بيدها، وعلى المُصلحين أن يتكاتفوا بكل ما يَرَوْنَ مِن وسائلَ على تطهير الإنسانية في أيِّ مجتمع كان، ديني أو غير ديني، من هذه الجرثومة التي تحملُ في صُورتها ومعناها سقوط الإنسان مِن رُتبة التكريم ومقام الخلافة التي وُضِعَ فيها منذُ خُلِقَ وكُوِّنَ.
العقاب الأُخرويُّ لقاتل نفسه:
ومِن هنا جاءت أحاديث الرسول ـ عليه السلام ـ الواردة في شأن الانتحار، تُسجل فقط العاقبة السيئةَ، والعذاب الأليم لقاتل نفسه، دون أن يكون من بينها نهيٌ عن ارتكاب الجريمة نفسها، وقد جاء الوعيد عليها في هذه الأحاديث ـ على نحو ما جاء في القرآن مِن وعيدِ قاتل “المُؤمن المُتَعَمِّدِ” ـ حِرْمانًا من الجنة، وخُلودًا مُؤيَّدًا في النار، ومن ذلك ما رواه البُخاري ومسلم عن النبي ـ ﷺ ـ قال: “كان فِيمَنْ قبلَكمْ رجلٌ بهِ جُرْحٌ فجَزِعَ فأَخذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بهَا يَدَهُ، فمَا رَقَأَ الدَّمُ حتَّى مَاتَ. قال الله ـ تعالى ـ: بَادَرَنِي عبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عليهِ الجَنَّةَ”.
ومنه ما روياه ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة قال: شهِدنا مع رسول الله ـ ﷺ ـ فقال لرجلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإسلام: هذا من أهل النار، فلمَّا حضَر القتالُ، قاتلَ هذا الرجل قتالًا شديدًا، “أيْ: مع المسلمين” فأصابتْه جِراحٌ، فقيل يا رسول الله: الذي قلتَ آنفًا إنه مِن أهل النار، قد قاتلَ قتالًا شديدًا، وقد مات، فقال ـ عليه السلام ـ إلى النارِ!! فكاد بعض المسلمين يرتابُ، وقالوا: كيف يكون هذا في النار؟! فبينما هم على ذلك إذ قيلَ لهم: إنَّه لم يَمُتْ، ولكن أصابته جراحٌ شديدة، فلمَّا كان من الليل لم يصبر على الجراح، فأخذ ذُبابَ سيْفِهِ فتَحامَل عليه فقتل نفسه، فأَخبر بذلك رسول الله ـ ﷺ ـ فقال: الله أكبرُ، أشهدُ أنِّي عبد الله ورسولُه، ثم أمرَ بِلالًا فنَادَى في الناس، أنَّه لا يدخلُ الجنة إلا نفسٌ مسلمة، وإنَّ الله ليُؤَيِّدُ هذا الدِّين بالرجلِ الفاجِر.
هذه نظرية الإسلام وتقديره لجريمة الانتحار. وجدير برجال التربية والتهذيب أن يُعِدُّوا لمُكافحتها في نفوس الشبان ما استطاعوا من وُجوه التقويم، وغرْس مبادئ الكفاح لمَا لا تخلو منه الحياة من الآلام، ومُصادمات الرغائب. وإن الشأن في هذه الجريمة لأكبر من أن نشغل أنفسنا بذكاء مُرتكبها أو غباوته!! فهي جُرثومة مُحقّقة، وجُرثومة مفسدة للإنسانية، وعَدْوَى نرى ميدان تَفَشِّيهَا يتَّسِعُ مِن عام إلى آخر، بل من شهر إلى شهر، فعلينا أن نُعْنَى بمُكافحتها وأن نَسُدَّ مَنابِعَهَا، فنتَّقِي شرَّها، ونسلم مِن وَيْلِهَا، ونُؤَدِّي بذلك ما علينا من حق لأبناء مُجتمعنا الإنساني الكريم، فيَطمئن الخاطرُ، ويأمَن العاثرُ .