اتسم المنهج القرآني في تلقي العلم بأنه منهج انفتاحي ،يسعى على أن يحصل المسلم العلم النافع من أي أحد ،فقد يأخذ الإنسان ممن هو أصغر منه ،أو من هو أقل منه رتبة ،كما يسعى لتحصيل العلم من المهد إلى اللحد ،وأنه كلما علم ،عرف أنه يجهل أكثر مما يعرف ،وأن التعلم نوع من العبادة التي ترضي الله تعالى إن أحسنت النية فيه .

“فيربي الإسلام أبناءه على تحصيل العلم النافع وتعلمه، والسعي لاكتسابه والإحاطة به، حتى لو كان ملقي العلم أصغر سناً من متلقيه، أو أقل منه علمية وفكراً، أو أردى المخلوقات مكانة وجاهاً”.

-إن القرآن الكريم يرسم لنا نماذج رائعة لبلورة هذه القيمة السامقة، فهاهوذا المسيح بن مريم (عليه السلام ) وهو ما زال في المهد صبياً، قد أعطاه الله الكتاب وجعله نبياً، وأصبح لزاماً على الناس اتباعه والانصياع لأوامره، بالرغم من أن ذلك يُعد في الأوضاع الطبيعية ضرباً من الجنون، وخصوصاً عندما يربط إنسان مصيره وحياته بيد طفل صغير.
قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا(29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا(30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [سورة مريم: 29-31].
-لقد حكى الله قصة نبيه موسى (عليه السلام) مع الخضر (رضي الله عنه ) -الذي اختلف في كونه نبياً ، أم مجرد عبدٍ صالحٍ-. وموسى (عليه السلام) كليم الله، وأحد أولي العزم من الرسل، وهو نبي أهل زمانه، وبالتالي يتوجب أن يكون الأعلم في عصره. رغم كل ذلك، نرى الآيات الكريمات تصوره وهو يستجدي الخضر (رضي الله عنه) طالباً منه بإلحاح أن يعلمه، وأن يسلمه نفسه بالاتباع.
قال تعالى في قصة موسى (عليه السلام ) مع الخضر(رضي الله عنه): {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا(65)قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا(66)قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا(67)وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(68)قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا(69)قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا(70)…(82)} [سورة الكهف: 65-82].
-ونقرأ في القرآن عن موقف نبي الله سليمان (عليه السلام ) عندما تفقد الطير، فلم يجد الهدهد، فقال: { مَا لِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ(20)لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(21)فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [سورة النمل: 20-22].
إن سليمان (عليه السلام ) تقبل بكل رحابة صدر ما قاله الهدهد، ولم يستحقر رأيه عندما أحاطه بما لم يحط به من أمر بلقيس ومملكتها سبأ.
-والقرآن الكريم لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوز ذلك، فيضرب لنا مثالاً رائعاً، وهو الغراب المستحقر، والذي نعده مضرباً للبؤس والتشاؤم، انظر إليه في القرآن معلماً للبشرية بأسرها، كيف تواري سوءات موتاها؟
قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ} [سورةالمائدة: 31].
-إن الأنبياء (عليهم السلام) أرسلوا إلى الناس هداة ومعلمين من قبل الله، وقد كانوا في معظمهم ممن يمتهنون حِرَف الفقراء.

فنوح (عليه السلام) كان نجاراً.

وأيوب (عليه السلام) كان حداداً.

ومحمد بن عبدالله () الذي ختم الله به الأنبياء والمرسلين، ونسخ برسالته رسالات السابقين، كان راعياً للأغنام.
قال تعالى: {ألم يجدك يتيماً فآوى(6) ووجدك ضالاً فهدى(7) ووجدك عائلاً فأغنى} [سورة الضحى: 6-8].
نعم، هكذا يتعامل القرآن مع مسألة تلقي العلم، بفكره القرآني المنفتح، لا بفكر وضعي انغلاقي، إنه يقول لنا استمعوا من الجميع، واتبعوا بعد ذلك أحسن قولهم.. إنها قمة المرونة والانفتاح.
قال الباري عز وجل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [سورة الزمر: 17-18].”