جعل الله تعالى للمؤمنين به عزة وعلوا فقال تعالى ” فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”، ويطلب الناس العز في المال أو الجاه، أو الركون لذوي القوة، وهذه هي العزة الزائفة الزائلة، وتكمن عزة المسلم في الركون للحق، والدفاع عنه ونصرته، وهنا تكون العزة الحقيقية الدائمة.
يقول الأستاذ محمد إبراهيم زيدان:
من معانى العزَّة، وهي كما يُعرِّفها علماء اللغة: القوَّة، والشدَّة، والغلبة، والرفعة، والامتناع، فهي إذن حالةٌ مانعةٌ للإنسان من أن يُغلب أو يُمتهن.
وصار العرف الآن يعبِّر عنها في أكثر الأحوال بلفظ الكرامة، وقد يُستعار لفظ العزَّة للحميَّة والأنفة المذمومة كما في قوله تعالى: (وإذا قيل له اتَّقِ الله أخذته العزَّة بالإثم فحسبه جهنَّم ولبئس المهاد).
والعزَّة يطلبها الإنسان ويبتغيها فيما يعتقده من الأديان وهو الأهمّ، وقد تُطلب من عوامل أخرى كالقوميَّات، أو الأيديولوجيَّات، أو التقدُّم العلمي، أو النموّ الاقتصادي، .. وغير ذلك، بيد أنَّ هذه العوامل أقلّ شأنًا من عامل الدين، على الأقلِّ من وجهة نظر السواد الأعظم من الناس، الذين يمثِّل الدين -أيًّا كان حقًّا أو باطلا– بالنسبة لهم قضيَّة حياتهم، ومظهر عزِّهم وفخارهم، ومن ثمَّ فإنَّ العزَّة الممدوحة هي عزَّة المؤمن بالله العزيز الذي لا يُغالَب ولا يُقاوَم، قال تعالى: (ولله العزَّة ولرسوله وللمؤمنين ولكنَّ المنافقين لا يعلمون).
العزة الزائفة الزائلة:
والعزَّة المذمومة هي تلك العزَّة الزائفة التي يدَّعي لها أصحابها من الفضل ما ليس لها -وما أكثر الزيف في عالمنا اليوم-، وقد ذمَّ القرآن الكريم في هذا الصدد اعتزاز الكفار بكفرهم فقال: (بل الذين كفروا في عزَّةٍ وشِقَاقٍ).
العزة الحقيقية الدائمة:
والعزَّة التي لله ورسوله والمؤمنين هي العزَّة الحقيقيَّة الدائمة الباقيَّة، وأمَّا عزَّة الآخرين فهي الزيف بعينه، فلا مرحبًا بعزٍّ محدودٍ يعقبه ذلٌّ ممدود، لكن متى يدركون ذلك، (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم * يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَلِهِ العذاب)، بل إنَّ آلهتهم التي عبدوها من دون الله سوف تنقلب عليهم وتبرأ من شركهم قال تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزًّا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدًّا).
هنا يحدث الندم وتقع المذلَّة، وهذا حال كلّ من يعتزُّ بغير الله، أو يطلب ذلك العزَّ بسخط الله، ولقد قال الأوزاعي ناصحًا الخليفة المنصور: إنَّ من طلب العزَّ بطاعة الله رفعه وأعزَّه، ومن طلبه بمعصية الله أذلَّه الله.
من اعتز بغير الله أذله الله:
1- عزة المال:
فنحن الآن نرى أحدنا يقول: مالي.. إنَّه سندي الذي لا يحوجني إلى أحد، فهو مظهر عزِّى واستغنائي عن الناس، ولو استبصر لعلم أنَّ ماله هذا فتنةٌ له، ووبالٌ عليه إن لم يرع حقَّ الله فيه، وقد يكون سبب ذلِّه يومًا ما، يقول الحسن رضي الله عنه: والله ما أعزَّ أحدٌ الدرهم إلا أذلَّه الله.
2- عزة الجاه:
ويقول أحدنا: إنَّني ضعيفٌ لا عزوة لي ولا مكانة، فلأحتم بفلان ذي الجاه، أو ذي المقام الرفيع بين الناس، أو الدولة الفلانيَّة التي لا يستطيع أحدٌ مسَّ فردٍ من أفرادها!!.. ولو تدبر واقع الناس لأدرك أنَّه ما تعلَّق أحدٌ من البشر بآخرٍ اعتزازًا به من دون الله إلا وقعت الفرقة بينهما، ودبَّ السخط والحقد بين حبيبَىِ الأمس، لأنَّ حبَّهما لم يكن لله، بل لاعتزاز أحدهما بالآخر من دون الله، وهذا حال من يسعون لكسب المعارف من الخلق بغية المصلحة أو الوصول إلى غرض، ولربَّما كان الدواء عين الداء، فكان ذلك التعلُّق الدنيوي سبب امتهانه وإذلاله.
وقد ورد في الأثر: (من اعتزَّ بالعبيد أذلَّه الله)، وجاء في “نوادر الأصول” للحكيم الترمذي تعليلٌ طيِّبٌ لذلك جاء فيه أنَّ الاعتزاز بالعبيد مفتاحه حبُّ العزِّ وطلبه، فإذا طلب العزَّ للدنيا طلبه من العبيد فترك العمل بالحقِّ والقول بالحقِّ لينال ذلك العزَّ، فعاقبة أمره الذلَّة.. فإن الله تعالى يُمهِل المخذول حتى ينتهي به خذلانه إلى أن يستحقَّ لباس الذلِّ، وإن الله تعالى أظهر عزَّه وأخرج إلى العباد إزار العزِّ ليجعل لهم من ذلك حظًّا، فإنَّما سمَّاه إزارًا ليعقل العباد عنه أنَّ هذه قوَّةٌ أخرجها إلى العباد ليقووا به على الأعداء، وليقوى به المحقُّ على المبطل، والأزر هو القوَّة وذلك قوله تعالى: (كزرعٍ أخرج شطأه فآزره) أي قوَّاه، والإزر هو موضعه من الآدميين من الوسط، يتَّزرون على أوساطهم ليقووا، ولذلك سُمِّي إزارًا لأنَّه قوَّة المرء.
فمن أسلم وجهه لله أوجب له حظًّا من ذلك العزّ، ومن أعرض عنه فأشرك به غيره في ملكه حرمه عزَّه، ومن احتمى بذلك العزِّ فقد تزكَّى.
3- العز بالاستناد لقوة الكفر وأهله:
ومنَّا من يعتزُّ بالكفار الذين لا يؤمنون بالله ربًّا ولا بالإسلام دينًا ولا بمحمدٍ ﷺ نبيًّا ورسولا، وهذا وهنٌ في الدين، وأمرٌ جدُّ خطير، فهو موالاةٌ لأعداء الله، وثمرته معاداة المؤمنين، وهي ثمرةٌ نتنةٌ خبيثة، تمجُّها الأفواه والأنوف وكلُّ الجوارح، وقد حذر الله عزَّ وجلَّ من التدنِّي إلى هذا المستوى، جاعلاً إيَّاه وصفًا للمنافقين فقال: (بشِّر المنافقين بأنَّ لهم عذابًا أليمًا * الذين يتَّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزَّة فإنَّ العزَّة لله جميعًا)، وقال في النهي عن موالاتهم بعد ذلك ببضع آيات: (يا أيُّها الذين آمنوا لا تتَّخِذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا)، وتحقَّقت فينا نبوءة رسولنا ﷺ حين قال: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن)، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حبُّ الدنيا وكراهية الموت) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
والعزَّة هي ميراث المسلم في كلِّ مكانٍ وفي أيِّ زمان، لأنَّ سبب اعتزازنا واعتزاز المؤمنين السابقين هو الإسلام، وهو ما زال لنا دينًا وعصمةً لأمرنا، وإنَّ إعادة الناس للاعتزاز بدينهم لن يأتي إلا إذا أعدناهم إلى الالتزام بتعاليم هذا الدين، وربَّيناهم على أن يعيشوا به وأن يُحكِّموه في حياتهم، فإذا ما عاشوه واقعًا سيعرفون القيم العظيمة التي يحويها هذا الدين على كلِّ المستويات، وسيكونون به أعزاء سعداء.