الرِّشوة فِعلُها رشا يرْشو، وهى إما مصْدر وإما اسم للشيء الذي يُرشَى به، ويُقال أيضًا أرشاه يُرشيه أي قدَّم له الرِّشوة، فالفعل إما ثلاثي وإما رباعي ” مختار الصحاح ” .
قال ابن الأثير في ” النهاية ” الرِّشوة ما يُتوصل به إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرِّشَا الذي يُتوصل به إلى الماء، فالرَّاشي من يُعطي الذي يعينه على الباطل، والمُرْتشي هو الآخذ، والرَّائش هو الذي يَسعى بينهما، يستزيد لهذا ويستنقص لهذا، فأما ما يُعْطَى توصُّلاً إلى أخْذ حقٍّ أو دفْع ظلم فغيْر داخل فيه، يُروي أن ابن مسعود أُخذ بأرض الحبَشة في شيء، فأعْطَى دينارين حتى خُلِّيَ سبيله، وروى عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: لا بأس أن يُصانع الرَّجُل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم.

معنى الرشوة وحكمها:

جاء في تاج العروس، وحاشية الطحطاوي على الدر ” ج3 ص 177 ” أن الرِّشوة في الاصطلاح ما يُعطَي لإبطال حقٍّ أو لإحقاق باطل.
ونرَى أنها تُطلق في العرْف الجَارِي على ما يُدفع لنيل ما يصعُب الحُصول عليه؛ وذلك إما لأنه ممنوع شرعًا أو قانونًا، وإما لأنه غير ممنوع ولكن يَحتاج إلى جهد للحصول عليه.

فالأول: كالقضاء له بشيء لا يستحقُّه، أو بظُلم أحد لا يستحق الظلم.

والثاني: كحصوله على حقِّه ويحتاج إلى دفع شيء للتعْجيل به وعدم التسويف فيه أو محاولة منعه، وكدفع ظلم عنه لا يُمكن إلا بما يُقدِّم لمن يستطيع دفع هذا الظلم.

والرِّشوة في النَّوْع الأول حرام؛ لأنَّ الممنوع شرعًا أو عقلاً حرام، وكل ما يوصِّل إلى الحرام فهو حرام، سواء كان ذلك بين الأفْراد بعضهم مع بعض، أم بين الأفراد ومن بيدهم سلطان قضائي أو تنْفيذي، وذلك من أجل أن ينال هذا الشيء الحرام من الأول بالحكم ومن الثاني بالتنفيذ، قال تعالى ( ولا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُم بَيْنَكُم بالبَاطِلِ وتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أمْوَال النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأنتُمْ تَعْلَمُون ) ( البقرة: 58 )، وقال ( يا أيُّها الَّذِينَ آمنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُمْ بِالبَاطِل ) ( النساء: 29 ) .
-وورد في السُّنة عن عبد الله بن عمرو قال: لَعن رسول الله ـ ـ الرَّاشي والمرْتشي. رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح.

-وعن أبي هريرة قال: لَعن رسول الله ـ ـ الرَّاشي والمرْتشي والرَّائش، يعني الذي يَسعى بينهما، رواه التِّرمذي وحسَّنه، وابن حبان في صحيحه والحاكم، وجاء في بعض الروايات: والمرْتشي في الحكم وفيه حديث ابن اللُّتْبيَّة الذي كان يعمل لرسول الله ـ ـ على الصَّدقات ورجع بالصدقات وبهدايا، فغَضِب الرَّسول، وقال ” هلَّا قعدَ في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديَّته “؟ ونصُّ الحديث:
-عن أبي حُمَيد عبد الرحمن بن سعد السَّاعِدِي قال: استعمل النبي ـ ـ رجلاً من الأزْد يُقال له ” ابن اللُّتْبيَّة ” على الصَّدقة، فلمَّا قَدِم قال هذا لكم وهذا أُهدي إليَّ، فقام رسول الله ـ ـ على المِنْبر فحمِد الله وأثنى عليه ثم قال ” أما بعد، فإني أستَعْمل الرَّجل منكم على العمل مما ولَّاني الله فيأتي ويقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلىَّ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيَه هديَّته إن كان صادقًا، والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقِّه إلا لقيَ الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفنَّ واحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رُغاء أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعَر “، ثم رفع يديْه حتى رؤى بياض إبطيه فقال ” اللهم هل بلَّغت ” رواه البخاري ومسلم .

أقوال العلماء في الرشوة:

ننقُل شيئًا مما قاله العلماء في موضوع الرِّشْوة:

(أ) جاء في كتاب ” الآداب الشرعية والمِنَح المَرْعية ” لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن مُفْلِح المقدسي الحنبلي المتوفَّى بتاريخ 2 من رجب سنة 762 هـ عن الهدية ما ملخصه:
حرَّم ابن تيمية الهديَّة في كلِّ شفاعة فيها إعانة على فعلِ واجب أو تركِ محرَّم، وفي شفاعة عند وليِّ أمر ليوليِّه ولاية أو يَستخدمه في المقاتلة وهو مستحقٌّ لذلك. أو ليعطيَه من الموقوف على الفقراء أو القرَّاء أو الفقهاء أو غيرهم وهو من أهل الاستحقاق، وهذا هو المنقول عن السَّلف والأئمة الكبار، وقد رخَّص بعض الفقهاء المتأخرين في ذلك، وجعل هذا من باب الجَعَالة، يَعني الشافعية. قال: وهو مخالِف للسُّنة وأقوال الصحابة والأئمة وهو غلط؛ لأن مثل هذا من المصالح العامة التي يكون القيام بها فرَض عين أو كفاية، فيَلْزم من أخذ الجُعل فيه تركُ الحقِّ، والمنفعة ليست للباذِل بل للناس، وطلب الولاية منْهي عنه فكيف بالعِوَض فهذا من باب الفساد . انتهى كلامه .

والخَبَر الذي احتجَّ به هو: روى أبو داود في سننه ” باب الهديَّة للحاجَة ” ثم رَوى عن أبي أمامة مرفوعًا للنبي ـ ـ ” من شفع لأخيه شفاعة فأَهْدى له هدية فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربًا ” ضعَّفه بعضهم ( جاء في بلوغ المرام ” ص 172 ” أن ابن حَجَر قال: في إسناده مقال، يعني حديث ضعيف )، لكن نصَّ أحمد ـ رضى الله عنه ـ على أنه لو قال: اقترِض لي مائة ولك عشرة أنه يصحُّ، قال أصحابنا: لأنه جَعَالة على فعل مباح، وقالوا: يجوز للإمام أن يَبْذل جُعلاً لمن يدل على ما فيه مصلحة للمسلمين، وأن المجعول له لا يَسْتحق الجُعل، مسلمًا كان أو كافرًا، وقاسوه على أجرة الدليل ( أي دليل النبي ـ ـ في الهِجْرة، وكان كافرًا ) .

(ب) والإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ” ج2 ص 136 ” طبعة عثمان خليفة ” فصَّل الموضوع تفصيلاً لا مزيدَ عليْه في الفرْق بيْن الرِّشوة والهديَّة، وتلْخيص ما قال فيما يأتي:
1 – باذِلُ المال لا يَبْذُلُه قط إلا لغرض، ولكن الغرض إما آجل كالثواب.

2 – وإما عاجل، والعاجل إما مال وإما فعل.

3 – إعانة على مقصود معين.

4 – تقرُّب إلى قرْب المُهْدي إليه بطلب محبته.

5 – للتَّوصُّل بالمحبَّة إلى غرض وراءها.

فالأقسام خمسة:
الأول: ما غرضُه الثَّواب في الآخرة، كأن يهدي لمحتاج أو عالِم، أو ذي نسب ديني أو صالح متديِّن، فلا بأس، وعلى هؤلاء ألا يأْخذوا ذلك إلا إذا كان بهذه الصفة التي من أجلها أَهْدى الناس إليهم .
الثاني: ما يُقْصد به في العاجل غرض معيَّن، كالفقير الذي يُهدي إلى الغنى طمعًا في غناه، فهذه هبة بشرط الثواب لا يخْفى حُكمها، وإنما تَحِل عند الوفاء بالثواب المطموع فيه .
الثالث: أن يكون المراد إعانة بفعل معين. كالمحتاج إلى السلطان يُهدي إلى وكيل السلطان وخاصته ومن له مكانة عنده، فهذه هديَّة بشرط ثواب يُعرف بقرينة الحال فيُنظر لهذا العمل الذي هو الثواب، فإن كان حرامًا، بأخْذ ما لا يَسْتَحقُّ أو بظلْم غيره حرُم الأخذ، وإن كان العمل الذي هو الثواب واجبًا، كدفع ظلْم متعيَّن على من يَقْدر عليه أو بشهادة متعيَّنة فيحرُم عليه ما يأخذه، وهى الرِّشوة التي لا يَشك في تحْريمها، وإن كان مباحًا ولا واجبًا ولا حرامًا وكان فيه تَعب بحيث لو عرَف لجاز الاستئجار عليه فما يأخذه حلال إن وفَّى بالغرض، وهو كالجَعالة، مثل اقْترِحْ على فلان أن يُعينني في غرض كذا أو ينعم علي بكذا، وكان ذلك يَحتاج إلى كلام وجَهد فهذه جَعالة، كما يأخذ الوكيل بالخصومة ” المحامي ” بين يدي القاضي، فليس بحرام إذا كان لا يَسعى في حرام، أما إن كان مقْصوده يَحصُل بكلمة لا تَعَبَ فيها، ولكن تلك الكلِمة أو كانت تلك الفِعْلة من ذي جاه تُفيد، كقَوْله للبوَّاب: لا تُغلقْ دونه باب السلطان، وكوضْعه قصَّته بيْن يدَي السلطان فقط فهذا حرام؛ لأنه عِوَض عن الجاه ولم يثبُت في الشرع جواز ذلك، بل ثَبَت ما يدلُّ على النَّهْي عنه، كما سيأتي في هدايا الملوك، ومثل ذلك أخذ الطَّبيب العِوَض على كلِمة واحدة يُنبِّه بها على دواء ينفرد بمعرفته، فلا يذكره إلا بعِوَض، فإنَّ عمله وهو التلفُّظ غير متقوَّم، كحبَّة من سِمْسم، فلا يجوز أخْذ العِوَض عليه ولا على علمه، إذ ليس ينتقل علمه إلى غيره، وإنما يحصل لغيره مثل علمه ويبقى هو عالمًا به، وهذا غير الحاذِق في الصناعة، كالذي يُصْقل السَّيْف أو المرآة بدقة واحدة لحسن معرفته بموضع الخلل ولحِذْقه بإصابته، فقد يَزيد بدقَّة واحدة مال كثير في قيمة السَّيف والمرآة، فهذا لا أرى بأسًا بأخذ الأجْرة عليه؛ لأنَّ مثل هذه الصناعات يُتعب الرَّجل في تعلُّمها ليكتَسِب بها، ويخفِّف عن نفسه كثرة العمل(1)
الرابع: ما يُقصد به المحبَّة وجَلْبها مِن قِبَل المُهدَي إليْه لا لغَرَضٍ مُعَيَّن، بل لتأكيد الصحبة وتودُّد القلوب، بهذا مندوب إليه عَقلاً وشرعًا، لحديث ” تهادوا تحابوا ” رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي، قال الحافظ: إسناده حسن وضعَّفه ابن عدي كما قاله العراقي وحتى لو كانت المحبَّة لا تطلب لذات المحبة بل لما وراءها، فإن ما وراءها غير معلوم، فتُسمَّى هديَّة ويَحِلُّ أخْذها .
الخامس: أن يَطلب التقرُّب إلى قلْبه ليتوصل بجاهه إلى أغراض لولا جاهه ما أهداه شيئًا، فإن كان جاهه لأجل عِلْم أو نسب فالأمر فيه أخفّ، وأخذه مكروه، فإن فيه مشابهة الرِّشوة ولكنها هديَّة في ظاهرها فإن كان جاهه بولاية تولاها من قضاء أو عمل أو ولاية صدقة أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية فهذه رِشْوة في شكل هديَّة، ولولا سلطانه ما أهدى إليه، بدليل أنه لو عزل من سلطانه دُفعت الهدية إلى من يَخلُفه، وهذا متفق على كراهته الشديدة .

لكن اختلفوا في كونه حرامًا والمعنى فيه متعارضًا؛ لأنه دائر بين الهديَّة المحْضة والرِّشْوة المبْذولة لغرضٍ، وإذا تعارضت المشابهة القياسية، وعَضَّدت الأخبار والآثار أحدَهما تعيَّن الميْل إليه، وقد دلَّت الأخبار على تشْديد الأمر في ذلك، لحديث ” يأتي على الناس زمان يُستحَل فيه السُّحت بالهديَّة، والقتْل بالموعظة: يُقتل البريء لتوعظ به العامة ” ( قال العراقي: لم أقفْ له على أصل )، وأورد حوادث منها: أن مسروق بن الأجدع ( من التابعين ) شفَع شفاعة فأَهدى له المشفوع له جاريَةً، فغَضِبَ وردَّها، وسُئل طاووس ( من التابعين ) عن هدايا السلطان فقال: سُحْت، وأخذ عمر ربح مال القراض الذي أخذه ولداه من بيت المال، وقال: إنما أُعطيتما لمكانِكُما منِّي. وأهْدَت امرأة أبي عبيدة ابن الجرَّاح إلى ” ماتون ” ملكة الروم خَلُوقًا ـ طيبًا ـ فكافأتها بجَوهر، فأخذه عمر فباعه وأعطاها ثمن الخَلُوق، وردَّ بَاقِيَهُ لبَيْتِ المال ولما ردَّ عمر بن عبد العزيز هديَّة قيل له: كان رسول الله ـ ـ يَقْبَلُ الهديَّة، فقال: كان ذلك له هديَّة ولنا رِشْوة ” تاريخ السيوطي ص 157 ” أي: كان يتقرَّب به إليه لنبوته لا لولايته، ثم ذكر الغزالي حديث ابن اللُّتْبيَّة الذي سبق ذكرُه. انتهى ملخَّصًا.

(ج) ومما يؤْثر في هذا الموضوع أن محمد بن مَسْلمة عندما أرسله عمر بن الخطاب ليُشاطر عمرو بن العاص ماله امتنع عن الأكل عنده وعدَّه رِشوة ” العقد الفريد لابن عبد ربه ج1 ص 14 “.

(د) وبعث النبي ـ ـ عبد الله بن رواحة إلى أهل خَيْبر ليُقدِّر الزكاة الواجبة عليهم، فأرادوا أن يُرْشوه فقال: تُطعموني السُّحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلىَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من عِدَّتكم من القردة والخنازير، ولا يَحْملني بُغْضي لكم وحبِّي إياه ألَّا أعدل بينكم فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض ” زاد المعاد لابن القيم ج1 ص 119 ” .

(هـ) وجاء في تفسير القرطبي ” ج6 ص 183 ” عن عمر ـ رضى الله عنه ـ قوله: رِشوة الحاكم سُحْت، وعن النبي ـ ـ ” كلُّ لحْم نَبَتَ بالسُّحت فالنار أولى به ” قالوا: يا رسول الله وما السحْت؟ قال ” الرِّشوة في الحُكم “(2)، وقيل لوهب بن مُنبه: الرِّشوة حَرَام في كل شيء؟ قال لا إنما يُكره من الرِّشوة أن تُرْشي لتعطي ما ليس لك، أو تدفع حقًا قد لزمك، فأما أن تُرشي لتدفع عن دينك ومالك ودمك فليس بحرام، قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ، لا بأس أن يدْفع الرَّجل عن نفسه وماله بالرِّشوة، وهذا كما روى عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة، فرَشَا بدينارَيْن وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع.

(و) جاء في فتاوى الإمام النووي المُسمَّاة بالمسائل المنثورة (ص 85) ملحق مجلة الأزهر صفر 1411 ما نصه:
(192) مسألة: إذا كان الإنسان في حبس السلطان أو غيره من المتعذِّرين حُبس ظلمًا، فبذل مالاً لمن يتكلَّم في خَلاصِه بجاهه أو بغيره هل يجوز، وهل نص عليه أحد من العلماء؟ ” والجواب ” نعم يجوز، وصرَّح به جماعة منهم القاضي حسين في أول باب الربا من تعليقه، ونقْلِه عن القفَّال المرْوَزي قال: هذه جَعَالة مُباحة، قال: وليس هو من باب الرِّشوة، بل هذا العِوَض حَلال كَسَائِرِ الجَعَالات.

(ز) وجَاءَ في كتاب ” مُفيد العلوم ومُبيد الهموم ” للخُوَارِزْمي ص 162 بيان للفرق بين الهديَّة والرِّشوة بما لا يَخْرج عما قاله الإمام الغزالي في الإحياء، ثم قال أخيرًا: متى كان هذا الفعل الحرام مثل الظلم وسماع بيِّنة الزُّور وتقْوية الظالم فكل ما يأخذه حرام، وكذا إذا كان الفعل متعيَّنًا عليه مثل دفع الظالم وسماع بيِّنة الحق، فكلُّ ما يأخذه سحْت.

(ح) وذكر ابن القيم في كتابه ” بدائع الفوائد ” ج3 ص 195: أن يحيى بن معين لما دخل مصر استقبلتْه هدايا أبي صالح كاتب الليْث، ومعها جارية ومائة دينار، فقَبِلها ودَخَل مصر، فلمَّا تأمَّل حديثه قال لا تكتبوا عن أبي صالح، ذكره الحاكم في كتابه ” الجامع لذكر أئمة الأمصار المزكِّين لرواة الأخبار ” .

(ط) جاء في فتاوى ابن تيمية ” المجلد 31 ص 286 ” أن ابن مسعود سُئل عن السُّحت فقال هو أن تَشفع لأخيك شفاعة فيُهدِى لك هديَّة فتقْبَلها، فقال له: أرأيت إن كانت هدية في باطل؟ فقال: ذلك كُفْر ( ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ).

ثم قال ابن تيميّة ما ملخَّصه: من أَهْدَى هديَّة لولى أمر ليفْعل معه ما لا يجوز: كان حرامًا على المُهدِي والمُهدَي إليه، وهذه من الرِّشوة المنْهيِّ عنها، وتسمَّى البِرْطِيل.
فأما إذا أَهْدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيَه حقَّه الواجب كانت حرامًا على الآخذ وجاز للدافع أن يدفعها إليه، كما كان النبي ـ ـ يقول: “إني لأُعطِي أحدَهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارًا”. قيل: يا رسول الله فَلِمَ تعطيهم؟ قال: “يأبون إلا أن يسألوني ويأبَى الله ليَ البُخل”.
” انظر فتوى شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق على جاد الحق. في مجلة الأزهر عدد ربيع الأول 1413 سبتمبر 1992 “.

والرِّشوة في النوع الثاني رأى جماعة حرْمتها لعموم الخبر الذي جاء فيه لَعْن الراشي والمرتشي والرائش، ونقله الشوكاني عن الإمام المَهْدي، لكن قال آخرون، وهو قول معقول،: إن كان هذا الأمر في يد مَن لا سلطان له، وسيبذِل جهدًا متبرِّعًا به غير واجب عليه، فإعطاء شيء في مقابل ذلك حلال لا بأس به، وأخذ هذا الوسيط له لا بأس به أيضًا، فهو من باب الجَعَالة، أي جَعْل عِوض معلوم على عمل غير معْلوم تفْصيلاً، وإن كان معلومًا إجمالاً، كمَنْ يقول: من ردَّ لي الشيء الضائع منِّي فله كذا، ومن بَحَث لي عن عمل طيب فله كذا، أما إذا كان هذا الأمر في يد مَنْ له ولاية عليْه، كرئيس مصلحة يُنجز للشخص عملاً هو من حقه، وتحت سلطان هذا الرئيس، فإنَّ إعطاء شيء له لتسهيل الإجراءات للوصول إلى الحقِّ جائز، لكنَّ أخْذ الرئيس له حرام؛ لأن المفْروض أنه يؤدِّي واجبَه المشروع بدون وساطة أو مقابل، ورأى البعض أن إعطاءه حَرَام؛ لأنه يُساعده على الحرام .
ومِثْلُ ذلك مَا إذا كان ذو السلطان ظالمًا ويُريد الإنسان أن يَدفع ظُلْمه عنه فيعطيه شيئًا فذَلك لا بأسَ به، وعلى الظَّالم الإثمُ في أخْذه.
وكلُّ ذلك إذا كان فيه اتفاق سابق على العمل في مقابل الرِّشوة، أما إذا لم يكن اتفاق مشروط أو معروف عُرفًا، وبعد إنْجاز المهمَّة المشروعة أعطاه صاحب الحاجة شيئًا فلا حُرمة فيه.
ثم قال العلماء: إن للقاضي حُكمًا في هذا الموضوع غير ما يكون للسلطة التنفيذية ويُريدون بذلك المحافظة على نَزاهة القاضي وعدم تأثُّره بأي شيء يجعله يميل في الحكم، فيَمنعون عنه كل ما فيه شبهة فقالوا: إذا كانت للمُهدِي قضية عند القاضي فلا يجوز مُطلقًا أن يَقبلَها القاضي، سواء أكانت هناك مهاداة سابقة بين الطرفين أم لا، أما إذا لم تكن هناك قضية وأراد أن يُهديَه هديَّة، فإن لم تكن هناك مهاداة سابقة فلا يجوز للقاضي أخذها؛ لأن الداعي لها هو توليه القضاء، رجاء أن يكون في صفِّه إذا عُرضت أمامه قضية تخُصه، فإن كانت هناك مهاداة سابقة كان من الظاهر جواز دفْعها وقَبولها، لكنَّهم قالوا أيضًا من باب الاحتياط لنَزَاهة القاضي: إن زادت الهديَّة عن المُعتاد السابق كانت غيرَ جائزة؛ لأن زيادَتَها هي لغَرَض، فإن لم تَزِد فلا حرج فيها.
الهوامش:
(1) في رأيي أنَّه لا فرْق بين الصَّانع والطَّبيب؛ لأنَّ الطبيب بذل جهدًا في تعلم الطبِّ؛ ليكْتَسب به أيضًا كالصَّانع، ولولا دِلالتُه على الدَّواء لكان الخَطَر.
(2) رواه ابنُ جرير عن ابن عمر كَما في الجامع الكَبِير للسُّيوطي، ولم يُحْكم عليه.