مجاهدة النفس تكون بحملها على اتباع أوامر الله سبحانه وتعالى، والوقوف عند حدوده، واجتناب نواهيه، ومخالفة الهوى، وفطامها عن الشهوات، وتزكيتها بالأعمال الصالحة.
ويجب على كل مسلم أن يجاهد نفسه في الله سبحانه وتعالى؛ لتطيب النفس وتزكو وتطمئن، وتصبح أهلا لكرامة الله تعالى ورضاه، وليعلم كل مسلم أن مجاهدته لنفسه على طاعة الله واجتناب ما حرم الله، هو سبيل المؤمنين الصادقين.
-وقد أمر الله سبحانه وتعالى بمجاهدة النفس على لزوم الطاعة، والبعد عن المعصية، فقال سبحانه وتعالى: ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) الحج: 78.
-وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت: 69.
مراتب جهاد النفس
قال ابن القيم -رحمه الله- جهاد النفس على أربع مراتب:
1- مجاهدتها على تعلم الهدى ودين الحق.
2- مجاهدتها على العمل به بعد علمه.
3- مجاهدتها على الدعوة إلى الحق.
4- مجاهدتها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار العبد من الربانيين.
فضل جهاد النفس
جهاد النفس على الطاعة والمثابرة على أداء الواجبات من أفضل الأعمال والقربات إلى الله تعالى، ولا يكمل إيمان العبد إلا بالصبرعلى طاعة الله، وكبح جماح النفس عن الانزلاق في المحرمات.
والمسلم إذا صبر على أداء الواجبات، وحبس نفسه عن مقارفة السيئات امتثالا لأوامر الله سبحانه وتعالى؛ أورثه الله تعالى طمأنينة وراحة نفسية، وأحس من نفسه محبة للطاعة، وكرها للمعصية؛ فتصير صفة من صفاته، فإذا حقق المجاهدة حصل له عون من الله، فسدده ووفقه، وهيأ له أسباب ذلك. يقول الله تعالى: ( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) الحجرات: 7. فيكون هواه فيما يحبه الله ويرضاه، قال رسول الله ﷺ: “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”.
ومجاهدة النفس أولها صعب وأخرها عذب، قال أحد الصالحين سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك. وقد كان النبي خير قدوة في مجاهدة النفس، فعن عائشة رضى الله عنها قالت: “كان رسول الله ﷺ يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورا”. متفق عليه.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: “كان رجل لا أعلم رجلا أبعد من المسجد منه وكانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفى الرمضاء، فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي فقال رسول الله ﷺ: “قد جمع الله لك ذلك كله” رواه مسلم.
ما حكم من نذر على الطاعة ثم عجز عن الوفاء
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :-
فأما الحلف بالنذر الذي هو ” نذر اللجاج والغضب ” مثل أن يقول : إن فعلت كذا فعلي الحج أو فمالي صدقة أو فعلي صيام . يريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل . أو أن يقول : إن لم أفعل كذا فعلي الحج ونحوه : فمذهب أكثر أهل العلم أنه يجزئه كفارة يمين من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة وهو قول فقهاء الحديث : كالشافعي وأحمد ، وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم وهذا إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهو الرواية المتأخرة عنه.
ثم اختلف هؤلاء فأكثرهم قالوا : هو مخير بين الوفاء بنذره وبين كفارة يمين ؛ وهذا قول الشافعي والمشهور عن أحمد . ومنهم من قال : بل عليه الكفارة عينا كما يلزمه ذلك في اليمين بالله وهو الرواية الأخرى عن أحمد وقول بعض أصحاب الشافعي .
وقال مالك وأبو حنيفة في الرواية الأخرى وطائفة : بل يجب الوفاء بهذا النذر.
وقد ذكروا أن الشافعي سئل عن هذه المسألة بمصر فأفتى فيها بالكفارة فقال له السائل : يا أبا عبد الله هذا قولك ؟ قال : قول من هو خير مني عطاء بن أبي رباح .
وذكروا أن عبد الرحمن بن القاسم حنث ابنه في هذه اليمين فأفتاه بكفارة يمين بقول الليث بن سعد، وقال : إن عدت أفتيتك بقول مالك وهو الوفاء به .
ولهذا يفرع أصحاب مالك مسائل هذه اليمين على النذر ؛ لعمومات الوفاء بالنذر ؛ لقوله ﷺ { من نذر أن يطيع الله فليطعه } ولأنه حكم جائز معلق بشرط فوجب عند ثبوت شرطه كسائر الأحكام . والقول الأول هو الصحيح.
ثم ساق ابن تيمية الأدلة التالية على صدق ما قال :- ثم ساق ابن تيمية الأدلة التالية على صدق ما قال :-
ما اعتمده الإمام أحمد وغيره قال أبو بكر الأثرم في ” مسائله ” سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل قال : ما له في رتاج الكعبة ؟ قال كفارة يمين واحتج بحديث عائشة . قال : وسمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يحلف بالمشي إلى بيت الله أو الصدقة بالملك ونحو ذلك من الأيمان ؟ فقال : إذا حنث فكفارة ؛ إلا أني لا أحمله على الحنث ما لم يحنث. قيل لأبي عبد الله : فإذا حنث كفر ؟ قال : نعم . قيل له : أليس كفارة يمين ؟ قال : نعم .
قال : وسمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا وكل مملوك لها حر فأفتيت بكفارة يمين فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جارية وأيمان فقال : أما الجارية فتعتق .
وأيضا فإن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه ؛ وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله وإنما مقصوده الحض على فعل أو المنع منه وهذا معنى اليمين . فإن الحالف يقصد الحض على فعل أو المنع منه ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة فتجزئه إذا علق به وجوب عبادة ،أو تحريم مباح بطريق الأولى لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك إيمانه بالله حيث لم يف بعهده، وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم .
ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي ؛ فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضى الحنث في التوحيد فساده ونحو ذلك وجبره فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى . انتهى بشيء من التصرف.